الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال

دراسات عمالية

الصفحة السابقة »

من تجارب قدامى النقابيين وتطوروتنوع الإدارة بين النقد والحل -2-

من تجارب قدامى النقابيين وتطوروتنوع الإدارة
بين النقد والحل
-2-
أحمد حباب
وأدت هذه البيئة – كما هو منتظر – إلى استياء الشعب و جمهور المستهلكين و العمال. و تبلور هذا الأشياء بالنسبة للعمال ، وقبل أن تصل النقابات إلى ما وصلت إليه فيما بعد من قوة- في ظاهرة التهريب والتثاقل والإضراب . فكان أصحاب الأعمال يسوقون العمال سوقاً عنيفاً بالباع والذراع ولكن العمال بدورهم كانوا يردون باتباع الوسائل التي يفلتون بها من هذا الإسار، و في الوقت نفسه لم تكن هناك أقل فكرة عن حسن اختيار العامل أو تدريبه ، فقد كانت الطريقة السائدة هي ما أطلق عليه وما يمكن أن يطلق عليه (الفهلوة) أو (الجدعنة) فقد كان العامل يسلم إلى (الأسطى) الذي يلقنه ما يعرفه حسناُ أو سيئاً ثم يدعه (هو وشطارته) وكان المعتقد أن أي عامل يمكن أن يوضع في أي مكان و يقوم بأي عمل.
فإذا كانت هذه العوامل التي أدت إلى ظهور (الإدارة العلمية) على يد فردريك و نسلو تايلور (1856-1915) فان شخصية تايلور نفسها قد أثرت على شكل و نمط الإدارة العلمية التي دعا إليها ، ومن هنا فلا تقل الإشارة إلى هذه الشخصية أهمية عن الإشارة إلى العوامل الموضوعية التاريخية السابقة، لأنه و إن كانت العوامل السابقة قد حددت لتيلور الهدف الذي يجب أن يعمل له إلا أن ظروفه الخاصة كانت مسؤولة إلى حد كبير على الشكل و الطابع الذي أخذته الحلول التي ارتآها و الطريقة التي انتهجها.
ونحن نعلم أن تيلور قد نشأ في أسرة يسيطر عليها التشدد الديني المذهبي ، وكانت أمه شخصية قوية و مسيطرة ، و لاشك أيضاً أنه – إلى جانب هذه التنشئة التي أعانته على النظام والترتيب ، و طبيعته على الدأب والنشاط – كان موهوباً و مهيمناً لذلك. وقد بدأ حياته العملية في أعقاب انكماش سنة 1878عندما كان من المستحيل تقريباً أن يجد أحد الميكانيكيين عملاً – بالالتحاق بشركة ميدفيل للصلب كخراط باليومية . و بالنسبة لما أظهره للشركة من ولاء لم يكن مألوفاً من العمال من الناحية و مقدرة في الأداء من ناحية أخرى فقد رقي بعد عدة أشهر إلى رئيس مجموعة ثم إلى مقدم. وفي سنة 1883 حصل على درجة مهندس بفضل دراسته المسائية ثم رقي سنة 1890 إلى منصب كبير مهندسي الشركة .
وكان تيلور دقيق الملاحظة ، حاد الذكاء، مثابرا يعمل دون ملل أو كلل ويعتني بكل صغيرة وكبيرة ، وقد أدى به استكشافه للعوامل التي تؤثر على ناتج عامل واحد يعمل على مخرطة إلى التواصل إلى استخدام الصلب ذي السرعة العالية الأمر الذي حقق له ثروة كبيرة و أدى إلى تقدم صناعة الآلات .   واستمرت أبحاثه حول هذه النقطة وحدها أكثر من 25 عاما و كانت موضوعا لخطابه عندما اختير رئيسا للجمعية الأمريكية للمهندسين الميكانيكيين .
على أن الانجازات الفنية و التكنولوجية لتيلور لم تكن على أهميتها له لتستأثر بالصدارة بين اهتماماته ، ذلك أنه خلال الفترات الأولى من حياته كعامل و مقدم عنى بظاهرة تخبط الإدارات وتثاقل العمال و دخل في نزاع مرير مع عماله في إحدى المناسبات ، و كانت فكرته عن العوامل أنه يعمل أقل من متوسط ما يمكنه أداؤه كما كانت فكرته عن الإدارة أنها لم تستطيع الوصول إلى التحديد السليم لما يمكن أن يكون عليه الإنتاج المناسب ليوم العمل – وبالتالي تحديد الأجر المناسب . كما لفتت انتباهه ظاهرة تعدد و ثقل مهم المقدم و أنه يجمع ما بين الإداري و العملي بصورة تربكه و تجعله يعجز عن القيام بهذه المهام أو يؤديها بطريقة غير سليمة .
و اعتقد تيلور ، رغم خلطته الوثيقة بالعمال ، أن مصلحة العمال و أصحاب الأعمال واحدة ، و عقيدته تلك توضح لنا غلبة المنطق على المشاعر فيه، فقد رأى بمنطق الأرقام أنه ما أن يزيد الإنتاج حتى يزيد الربح و تزيد الأجور ، ونسى قوى المشاعر الإنسانية من طمع أو استئثار ة اختلافها و كان من السهل على ملاحظ دقيق مثل تايلور أن يدرك المدى البعيد الذي اتسم به رداءة الآلات و تعددها و تنافرها في تخلف الكفاية الإنتاجية و زيادة العوادم . وكانت تلك النقطة من أيسر الاكتشافات و إن تطلب إصلاح بعضها منه سنوات طويلة، على أن تيلور كان يريد شيئاً أكبر . كان يريد قاعدة تمكنه من الوصول إلى الإنتاج القياسي للعامل ، و تحديد العلاقة السببية ما بين الوقت و الجهد عملياً. و اضطر لأن يستعين بخدمات رياضي كفء. و عندئذ اكتشف شيئاً يقرب من القانون . فكل الأعمال تقريبا تتكون من جذب أو دفع أو تحريك تقوم به أيدي العامل وظهره أن يكون تحت ثقل العملية(من جذب أو دفع أو تحريك) سوى جزء مئوي من وقت العمل و التواصل إلى هذا الترتيب يمكن أن يجنب العامل إرهاقا لا مبرر له ، و بالتالي يزيد الكفاية الإنتاجية و كانت تلك النقطة هي مفتاح نظرية في تحليل العملية الإنتاجية إلى جزئيات صغيرة ودراسة الوقت و الحركة .
و خلال السنوات التي عمل فيها تيلور في خدمة شركة ميدفيل للصلب سجل و حلل ما بين ثلاثين ألف و خمسين ألف تجربة فردية و انفق عليها-من مالية الشركة – قرابة مائتي ألف دولار ، وتطلبت هذه التجارب مراجعة كل ظروف العمل و تحسين الآلات شكلاَ و حجماً .
ويوضح المثال التالي طبيعة التجارب التي أجراها تيلور ، وإن أجريت في الفترة التي أعقبت تركه لشركة ميدفيل و تفرغه لإحكام نظرياته . فخلال الحرب الاسبانية طلبت شركة بت لهيم (أو بيت لحم) للصلب معونة تيلور في الإسراع بتحميل و نقل ثمانين ألف طن من الحديد الخام على وجه السرعة.
وعندما جاء تيلور وجد 75 عاملا ينقل الواحد منهم في المتوسط 12,5 طنا يوميا. و بعد أن أجرى تجاربه و دراساته عن حركات عملية النقل ، شكل وطوله ووزن المجاريف الخ.. اختار عاملا بنسلفانيا من أصل هولندي يدعى شميدت و أقنعه بأنه سيكسب مزيدا من الأجر بفضل إتباع توجيهاته ، و صرف بقية العمال . و كان شمديت متوسط الحجم ولا يزن سوى 128 رطلا، ولكنه كان كفوءا في أداء العمل الشاق . و تولى تيلور تمرين شميدت على طريقة جديدة و استخدم وسائل و معدات محسنة ، وحدد له فترات معينة للراحة، وفي نهاية اليوم الأول استطاع شمديت أن ينقل 47,5 طناً و ارتفع أجره من دولار و خمسة عشر بنساً إلى خمسة و ثمانين بنسا. و أوضحت التجربة أنه بالنسبة لهذا النوع من العمل ، فإن العامل لا يكون تحت الثقل الكامل للحمل سوى 42%من اليوم.
و ليست هذه التجربة إلا تجربة من تجارب عديدة أجراها تيلور و حفل بها كتابه (مبادئ الإدارة العلمية) وهي في مجموعها ترسي المبادئ الأساسية الآنية.
ا- تحليل العملية الإنتاجية و تقسيمها و تحيد الوقت المناسيب و الطريقة المثلى للأداء كل جزء بفضل دراسة الوقت والحركة.
ب- دراسة الآلات و المعدات و المعادن و تنميطها و توحيدها و وضعها بما يسهل العملية السابقة من ناحية وما يحقق توفير العوادم في الخامات و الضياع في الجهد و الوقت من ناحية أخرى.
ج- حسن اختيار العمال المناسبين و تمرينهم و تدريبهم على الطريقة العلمية بدلا من طريقة (الفهلوة) و الشطارة.
د- تحديد هدف صعب التحقيق شيئا ما ، ولكنه ممكن إذا أحُسن استغلاله فترة العمل مع المحافظة على الصحة البدنية و النفسية للعامل .
ه- تحديد معدلات نمطية الأجور ، و كفالة حد أعلى من الحد الجاري مع مكافأة الذين يحسنون ومجازاة الذين يقصرون.
و- تقسيم المسؤولية قسمة عادلة بين الادارة في المكاتب و العمال في المعامل .
بهذه القواعد وأمثالها أمكن الوصول إلى انجازات كبيرة و زيادات ضخمة في الإنتاج ، كما حدث في المثال الذي أشرنا إليه و أمكن زيادة ما ينقله عامل من 12,5 طناً من الحديد الخام 47,5 طناً في اليوم، وكذلك الوصول إلى وضع 2700 لبنة بناء من اليوم بدلا من 1000 لبنة بناء التي كانت متوسط عمل البناء وهلم جراً.
ولو تتبعنا عمل تيلور لوجدنا أنه تدرج بعدد من المراحل ففي الأولى و تمثلها تجاربه في ميدفيل كان الاهتمام الأعظم فيها ينصب على الآلات و المواد و تحسينها و تنميطها . وفي المرحلة الثانية ، و تمثلها تجربته في شركة بتلهيم تركز الاهتمام الأساسي فيها على الأداء و الطريقة المثلى له ، و أثمرت هاتان المرحلتان المرحلة الثالثة التي عني فيها المشكلة الإدارية ما بين العنابر والمكاتب وفي المرحلة الأخيرة كلل العمل كله بتاج موضوعي و صيغ في قالب نظري هو (المسلك العلمي) الذي يجب أن يحل محل الطرق التقليدية ، و يكون هو الفيصل فيها ، و يخضع كل شيء للدراسة ولما تنتهي إليه هذه الدراسة ، وفي النهاية و تحول المهندس إلى داعية وأدمجت كل التجارب و المحاولات في نظرية جديدة هي (الإدارة العلمية) التي إن لم يكن هو صاحب التسمية ، إلا أنها ظفرت بموافقته.



 


مشاركة :
طباعة