الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال

دراسات عمالية

الصفحة السابقة »

من تجارب قدامى النقابيين وتطوروتنوع الإدارة بين النقد والحل -1-


من تجارب قدامى النقابيين وتطوروتنوع الإدارة
بين النقد والحل

-1-



أحمد حباب




تطور وتنوع الإدارة بين النقد والحل؟
في المحاضرة الأولى تحدثنا عن الادارة بصفة عامة وتعرفنا على الكثير من جوانبها ، و سنتناول في هذه المحاضرة تطور الادارة في العصر الحديث .
وقد يسأل سائل .. وماذا قبل العصر الحديث؟ إننا باستثناء ومضات انبعثت من روح الأنظمة أو من عراقة الحضارة المصرية الفرعونية وهي أعرق الحضارات القديمة وأكثرها إنسانية و تنظيما.أو من عبقرية الادارة الرومانية... لا نجد نظاما إداريا موضوعياً. وإنما نجد الحكم الفردي و الدكتاتوري. وبالنسبة للمنشآت و الأعمال كانت الادارة غاشمة ، متسلطة أو على أفضل أحوال أبوية، يكون صاحب المنشأة فيها كالأب القديم الذي يريد مصلحة أبنائه-ولكن كما يرى هو هذه المصلحة –وعبر سلطات كبرى يحتفظ بها في يديه.
وليس معنى هذا أن العصر القديم لم يكن محكوما بنظم إدارية قوية أو حتى منهجية في بعض الحالات . ولكن النقد هنا لا ينصب على قوة أو فعالية هذه النظم . ولكن على سلامتها الموضوعية .فلم يفهم ملوك الفرس من حكمة(العدل أساس الملك) سوى أن يكون الفلاح فلاحاً و النبيل نبيلاً..وأن صعود واحد من السفلة أسوأ من نزول مائة من الشرفاء، ولم تفهم روما من السلام إلا سيادة روما فوق الشعوب .. وكانت معجزتها الإدارية هي الطريق التي تسمح للجحافل الرومانية بالوصول إلى أقصى الإمبراطورية و تحقيق هذا السلام بالسيف.
من هذا نعلم أن العالم القديم كان في أغلب الحالات يحكم ويدار بنظم غير منهجية ، فإنها لم تكن موضوعية ولكن ذاتية فلم يكن المنهج ليفيد كثيراً لأنه في الملاذ الأخير يدور على محور الفرد الحاكم أو صاحب المنشأة .
البيروقراطية الفنية:
ما أن أخذت الدولة القومية في الظهور في منتصف القرن السابع عشر حتى تعددت المحاولات لوضع نظم إدارية لتسيير الأمور العامة للدولة و النهوض بواجباتها التي أخذت تزيد شيئاً فشياُ ، و حملت هذه النظم إصلاحا معينا هو (البيروقراطية) ولم يكن الإصلاح وقتئذ يوحي ذلك الانطباع السيئ الذي غلب عليه فيما بعد .صحيح إن المحاولات التي بذلت أول مرة اصطدمت بالجهالة من ناحية و الفساد من ناحية أخرى وخضعت لهما كما تأثرت بالميول الحزبية و المحسوبية و استغلال النفوذ، ولكن هذه العيوب نفسها لم تكن – إلى حد كبير –من صميم النظام أو طبيعته ،كما أنها دفعت المصلحين لعلاجها بحيث تخلصت النظم البيروقراطية من أسوأ عيوبها مع مطلع القرن . كما رزقت مفكرين حاولوا وضع الأسس التي تعصمها من الفساد.
و أبرز هؤلاء هو الألماني ماكس فيبر ( 1860-1920) الذي يمكن أن يقل أنه في عالم الإدارة العامة مثل تايلور في عالم الإدارة الخاصة . وقد تأثر فيبر بعاملين الأول: نمو المنظمات الصناعية و العسكرية في ألمانيا و الثاني : تسليمه بالضعف البشري و عدم الاعتماد على مشاعر الأفراد أو أحكامهم.
و نتيجة لذلك فإنه دعا إلى إيجاد جهاز (عقلاني) ضخم مجرد من المؤثرات الشخصية و الفردية يستطيع أن يوجد الحلول لمشاكل الإدارة دول دون الخضوع للميول الخاصة أو الوقوع في الأخطاء التي يقع فيها الآخرون.وقد شبه فيبر في إحدى المناسبات هذا الجهاز بآلة أوتوماتيكية عصرية ما أن (يوضع) فيها المدعون و الرسوم حتى تخرج الأحكام مع الحيثيات من نص القانون ، ولعله في هذا التشبيه كان يتنبأ بالعقول الالكترونية ، و أطلق على هذا النظام كلمة (البيروقراطية).
و تطلب فيبر خصائص معينة في النظام البيروقراطي أبرزها تنظيم الوظائف طبقاً للقوانين ، و التسلسل في الوظائف ، و توفر مناخ خاص من التخصص ، و فصل الملكية عن الإدارة ، و اختبار الموظفين طبقاً لمؤهلاتهم الفنية، و التعبير عن المركز بدرجة الوظيفة الخ..
وأكد فيبر (تميل التجربة لأن تظهر أن النمط البيروقراطي للتنظيم الإداري يستطيع من جهة النظر الفنية-أن يبلغ أعلى مراحل الكفاية ، أو أنه بهذا الاعتبار يعد أكثر الصور (عقلانية) للقيام بالرقابة اللازمة على الكائنات الإنسانية ، وأنه يفضل أية صورة أخرى من ناحية الدوافع و الدقة و إحكام وسائل الضبط و إمكان الاعتماد عليها ، و أنه بذلك يمكن رؤساء التنظيم والذين يعملون معهم من الوصول إلى درجة كبيرة من احتساب النتائج ، و أخيراً فإنه أفضل من ناحية تكثيف الكفاءة ة مجال العمل ، و أنه يصلح لكافة أنواع المهام الإدارية . و لم يكن النمو الشكل الحديث لتنظيم الشركات و المجموعات الأخرى في كل مجال إلا نموا و استمرارا لتطبيق الإدارة البيروقراطية وهذا ما يصدق على المشروعات الاقتصادية و المنظمات التي تعمل للنهضة بكل القضايا و الهيئات الخاصة والنوادي و أنواع أخرى عديدة. ويمكن أن يكون تطور الإدارة البيروقراطية من أكبر ظواهر الحسم في الدولة الغربية الحديثة . على أنه توجد أشكال عديدة يبدو أنها لا تصلح لهذا النمط، مثل الهيئات التمثيلية و القضاة غير المهنيين و الموظفين الشرفيين . وقد اشتكى الكثيرون من شرور البيروقراطية، لكن من الوهم المغرق أن نتصور للحظة إمكان استمرار العمل الإداري في أي مجال بغير وسائل العمل المكتبي، أن كل نمط الحياة اليومية قد فصل أو ( قد) بحيث يتسق مع هذا الإطار . لأن رشداً من أي طريقة أخرى لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة لاحتياجات الإدارة المتعددة ، و الخيار إنما هو بين البيروقراطية و الهواية في مجال الإدارة ).
ومما لا يخلو من دلالة أن الكاتب النقابي البريطاني (ألان) قد استشهد بهذه الفقرة في كتابه (السلطنة في النقابات) وعقب عليها (لا يرى فيبر في البيروقراطية وصمة. وهو يعني بها ممارسة الرقابة على أسس علمية . ولكن قبل تعريف فيبر لا يعني أنها لا تتضمن مخاطر مغروسة فيها . فالحق أنها تتضمن، وهناك حاجة دائمة للحيلولة دون تفاقمها).
وهكذا نرى مما ذكرنا ه، ومن فقرة فيبر السابقة أن البيروقراطية بمعناها الفني والإصلاحي تعني تنظيما إداريا مكتبياً ، و أن هذا التنظيم لا بديل له فيما يبدو عندما تبلغ المنظمات من الكبر و النمو حدا معينا . ويمكن بسهولة تقصي صورة عريقة و وطيدة للبيروقراطية في بعض الإمبراطوريات القديمة كمصر و الصين على عكس أثينا والمدن اليونانية التي كانت تجري على الطريقة (دولة الولاية) و على عكس الدول الأوربية في القرون الوسطى التي لم تكن قد فطنت إلى البيروقراطية الصحيحة أو وجدت فيها صور هزلية و منحرفة منها . وفي تاريخنا العربي نعلم أنه لم تكد الجيوش العربية تبلغ العراق وسورية حتى لجأ عمر بن الخطاب إلى البيروقراطية في شكل إيجاد (الديوان) وهي الكلمة التي أصبحت- فيما بعد – أكبر رموز البيروقراطية.
كما نعلم أن البيروقراطية . وأن غلب عليها طابع التنظيم الإداري للدولة إلا أنها –باعتبارها إدارة عقلانية مكتبية – يمكن أن توجد في كل المنظمات ومن ثم جاز لبيتربلو أن يقول (إن البيروقراطية ليست مقصورة على الأجهزة الحكومية العسكرية أو المدنية، فهي توجد أيضا في قطاع الأعمال والنقابات وفي الكتاب وفي الجامعات وحتى في لعبة البيسبول)
مع هذا كله ، فلا ريب أن كل النظم البيروقراطية مآخذ جسيمة ولا يقتصر النقص فيها على سرعة قابليتها للجمود و الفساد، أو على الخطأ في اتجاهها (العقلاني) . بل إن الفكرة من أساسها قد لا تكون باللزوم الذي تصوره إتباعها كما سنرى فيما بعد ، ولو أن هذا يسرى على المستقبل أكثر مما يسري على الحاضر .. فقد يكون هناك بدائل لها غير (الهواية في الإدارة ) كما تصور فيبر .
الإدارة العلمية:
في الوقت الذي كان ظهور الدولة القومية وتضخم أعبائها و واجباتها وتوسع منظماتها يدفع فيبر في ألمانيا وعدد كبير من المصلحين الاجتماعين لوضع أسس البيروقراطية السليمة وإصلاح نظم الخدمة العامة في بريطانيا و فرنسا و غيرها ، كان التوسع الصناعي الذي حدث نتيجة التحسينات الآلية وانتشار شبكة المواصلات و اتساع الأسواق دون أن يصطحب هذا التوسع الاقتصادي و الإنتاجي بتقدم في الإدارة يكفل التسيير السليم لهذا الجهاز الضخم يثير انتباه عدد من النابهين في مجال الصناعة – وبوجه خاص من المهندسين في الولايات المتحدة التي كانت أكثر من غيرها مسرحاً لهذا التناقض بين التوسع الإنتاجي و التخلف الإداري . وكان من المسلم به وقتئذ أن الإدارة فن لا يكتسب إلا بالتجربة و الخطأ ، وأن النجاح فيه يتوقف على الصفات الشخصية للمديرين ، وليس على إتباع قواعد مقررة أو مبادئ مدروسة ، وسمحت هذه البيئة بظهور الإدارة الفردية و الشكلية في مجال الصناعة ، كما يتضح ذلك جلياً من تقصي سير بارونات (أو قباطنة الصناعة) والاحتكارات و الشركات القابضة.
 


مشاركة :
طباعة