معايير العمل العربية والدولية
وتأثيرها على تشريعات العمل
-7-
أحمد حباب
- إذن هل يعني ذلك أن عصر المعايير الدولية آخذ بالأفول؟ وان منظمة العمل الدولية ستضطر إلى التخلي عن دورها التشريعي ؟.
- لا أجد إجابة على التساؤل أفضل من اقتباس عبارة (نيكولاس فالتيكوس).
- ( إن المعايير ليست مجرد نتاج لمنظمة العمل الدولية ، وإنما هي علة وجودها )، وهذا يعني إن عدم ممارسة هذا النشاط من قبل المنظمة يفقدها مبررات وجودها ، وإنها يوم يفرض عليها أن تتخلى عنه ، عليها أن تستخدم المفاتيح الثلاثة التي فتحت بها باب مبناها لأول مرة في إغلاق هذا الباب إلى الأبد ، وهذه النتيجة ليست دون أدنى شك في صالح أي من أطراف العمل الثلاثة .
- إن الأسباب التي دعت إلى قيام المنظمة لا تزال في تقديرها قائمة ، و دواعي ممارسة النشاط التشريعي الدولي لا تزال أيضا قائمة ، على انه هنا لابد من ملاحظة الحقيقتين الآتيتين:
الأولى:
- انه ليس مطلوبا من منظمة العمل الدولية أن تواصل النشاط التشريعي بنفس المعدل الذي تمارسه خلال سنوات عمرها السابقة ، فليس من شك في أن (كم) هذا النشاط سيتناقص بالضرورة مع ازدياد عدد المعايير التي أقرتها المنظمة حتى الآن ،وهذا ما تؤكده الحقائق المستمدة من مسيرة هذا النشاط عبر سنوات عمر المنظمة ، فلقد شهدت دورات المؤتمر في المراحل الأولى من عمر المنظمة إقرار العديد من الاتفاقيات في الدورة الواحدة (ست اتفاقيات في الدورة الأولى ، سبع اتفاقيات في الدورة الثالثة ، سبع اتفاقيات في الدورة السابعة عشرة، تسع اتفاقيات في الدورة الثامنة و العشرين ..الخ )،إلا انه بعد أن تمكنت المنظمة من انجاز هذا الكم الكبير من المعايير ، فان حجم هذا النشاط التشريعي لا بد أن يتناقص ، ولهذا فان الدورات الأخيرة للمؤتمر لا تناقش في العادة سوى مسودات اتفاقية أو اتفاقيتين .
الثانية :
- أن المنظمة تواجه حاليا مهمة مزدوجة تتمثل في :
1. متابعة تنفيذ الدول الأعضاء للاتفاقيات و تحويل المعايير الواردة فيها إلى واقع حي ، وهذا ما تؤديه المنظمة عبر أجهزتها الدستورية .
2. ملائمة هذه المعايير مع الواقع المستجد باستمرار على الساحة الدولية ،و المعايير في هذا تتماثل مع التشريع الوطني ، فهي إذا تركت دون تطوير على نحو يلائمها مع مستجدات الواقع ، ستفقد مبررات وجودها ، وستجد الدول صعوبة في الالتزام بها ، وهذا ما تفعله المنظمة باستمرار من خلال إقرار الاتفاقيات المراجعة (المعدلة ).
- إن العمل التشريعي للمنظمة بشقيه المشار إليهما فيما تقدم سيظل حقيقة دولية لا يمكن التخلي عنها ، على انه إذا أريد له النجاح فعليه ألا يغفل حقائق الاختلاف الواسع بين الدول الأعضاء في المنظمة ، لذا فان (المرونة )في هذا النشاط يجب أن تكون الأساس فيه ، هذه المرونة التي يجب أن تمتد إلى :
1. المرونة في صياغة المعايير ، بحيث تسمح بقدر واسع من الاختيار للمشرع الوطني لتحقيق الملائمة بين المعايير و الأوضاع الخاصة بكل دولة .
2. المرونة في التصديق ، بتوسيع فرص التصديق الجزئي أمام الدول الأعضاء ،مما يتيح للدول النامية بالذات أن تصدق على ما يتلاءم مع قدراتها الوطنية ، حين تعجز عن الالتزام الكامل بأحكام اتفاقية ما .
1- وقفة مع المعايير العربية :
- من خلال ما سبقت الإشارة إليه اتضحت لنا حقيقتان بشأن المعايير العربية .
الأولى :
- تدنى معدل تصديقات الدول العربية على المعايير العربية:
- إلا أننا نرى – على الرغم من كل ما اشرنا إليه ، وما يمكن أن نستنج منه ويبنى عليه – أن استمرار النشاط التشريعي للمنظمة هو الخيار الوحيد أمام الدول العربية الذي لا بديل عنه ، فإذا كان العمل المشترك في ميدان العمل والعمال قد وصف في بعض فتراته ، بأنه كان وليد فورة (عاصفة) قومية ، فان الأحداث التي تحيط بالعالم المعاصر تجعل هذا التوجه اختيار قدريا لا يمكن مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بدونه ، فالقوى المهنية في عصرنا تتوجه نحو التكتل بهدف تجميع الجماعات الإنسانية الصغيرة في جماعة اكبر ، وما تشهده أوروبا خير دليل على ذلك ، وما يدفعها إلى ذلك هو السعي إلى تحقيق أكثر الفرص ملاءمة لمصالحها الاقتصادية المشتركة و التحديات التي تجابهها من قوى اقتصادية ، أخرى ، في حين تسعى هذه القوى الكبيرة أو الساعية إلى أن تكون كذلك إلى تفتيت الجماعات الإنسانية الأخرى ، إلى جماعات اصغر لكي تضعف إمكانات مواجهتها المستقبل وإن المخططات الصهيوأميركية تسعى من خلال زعزعة الاستقرار في العالم تحت مسميات مختلفة وإلى النيل من سيادة الدول . ورهن اقتصادها وتدمير بناها التحتية كما يحصل للكثير من الدول العربية الرافضة للسياسات الأميركية.
- من هذا المنطلق فإننا نرى أن المستقبل الأمة رهين بتحويلها إلى سوق واحدة تتشابك فيها المصالح الاقتصادية و يستثمر رأس المال فيها وتنتقل القوى العاملة والبضائع بلا قيود ، وهذا أمر لا تريده أميركا وإسرائيل بل يعملون من خلال تشجيع الإرهاب على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم تحت عناوين خادعة وغادرة.
إن انتقال القوى العاملة العربية بين الدول العربية يقتضي :
1. إلغاء القيود التي تحد من حرية انتقال هذه القوى .
2. إعطاء الأولوية في التشغيل في الدول العربية للعمال العرب وللخبرات الأجنبية التي تحتاجها.
- تماثل مستويات العمل في الدول العربية و تكاملها حفزا للعمال على الانتقال من بلد إلى آخر دون أن يؤثر ذلك على حقوقهم الآنية و المستقبلية ، وكل ذلك لأي مكان أن يتحقق إلا بوسيلة واحدة ، هي مواصلة المنظمة قوانينها التشريعية ، وصولا إلى :
1. بناء القانون العربي للعمل .
2. تنسيق السياسات ، ورسم الصيغ الإجرائية لتنفيذ ما تقدم بين الدول العربية .
على أن النشاط التشريعي للمنظمة ينبغي أن يقترن بالأخذ بالملاحظات الآتية :
1- أن تتسم المعايير العربية بخصوصية تؤكد ذاتيتها من ناحيتين :
الأولى :
- ذاتية المضمون لكي تجسد هذه المعايير حقيقة أنها تتبع من واقع إقليمي متميز له خصوصيته.
الثانية:
- ذاتية الهدف باعتبارها تسعى إلى تحقيق قدر كبير من التماثل بين أحكام قوانين العمل العربية، وصولا إلى الغاية النهائية التي رسمها كل من الميثاق العربي للعمل ودستور منظمة العمل العربية .
2- أن يراعي في صياغة المعايير التباين القائم في النظم السياسية في الدول العربية درجة تقدمها الاقتصادي والاجتماعي ، و مستوى تطور علاقات العمل فيها ، مما يقتضي صياغة هذه المعايير بقدر اكبر من المرونة ، بحيث تتاح أمام المشرع الوطني فرصة أوسع للاختيار، ويدخل في هذا الإطار التوجه إلى إقرار صيغة التصديق الجزئي ، وهو ما أخذت به الاتفاقيات الأولى ، إلا أن الاتفاقيات اللاحقة تخلت عنه .
3- تجنب أن تتضمن الاتفاقية الواحدة معالجة موضوعات عديدة معالجة تفصيلية ، فلقد ثبت أن هذا المنهج تسبب في إحجام العديد من الدول عن تصديق على بعض الاتفاقيات ، بسب عدم قدرتها على الالتزام بنص واحد من بين نصوص عديدة واردة في اتفاقية واحدة ، وعليه فان تجزئة المعايير في اتفاقيات عديدة تعالج كل منها مسالة جزئية سوف تكونه كفيلة بتجنب مثل هذه النتيجة .
4- أن يراعى في صياغة الاتفاقيات التي تتضمن رسم سياسات مشتركة بين الدول العربية ، أو التي تلقى عليها أعباء متقابلة ، الجوانب الإجرائية في التنفيذ ، حين لا يتوقف هذا التنفيذ على إرادة الدولة المصدقة وحدها ، فقد تتعطل قدرتها على تنفيذ التزام لهذا السبب ، ويؤدي هذا إما إلى إحجام عن التصديق على مثل هذه الاتفاقيات أو تعرض الدولة التي تصدق عليها للمساءلة عن عدم التنفيذ.
5-أن تصاغ المعايير صياغة قانونية دقيقة تجنبها الإشكالات التي يمكن أن تنشأ عن الغموض و الارتباك في الصياغة ، مما ينشا عنه تعدد الاجتهادات و اختلاف الموقف ، وهذا يقتضي أن يتولى الصياغة النهائية للمعايير متخصصون في فن الصياغة ، وألا يسمح بإدخال أي تعديل على نصوصها بعد هذه المرحلة .