الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال

دراسات عمالية

الصفحة السابقة »

معايير العمل العربية والدولية وتأثيرها على تشريعات العمل -5-

معايير العمل العربية والدولية
وتأثيرها على تشريعات العمل

-5-

أحمد حباب

- هدف النشاط التشريعي لمنظمة العمل العربية و أساليبه :
رسم الميثاق العربي للعمل ودستور المنظمة ، كما ذكرنا ، هدف النشاط التشريعي لمنظمة العمل العربية من خلال النص في ميثاق على أن  (توافق الدول العربية على أن تعمل على بلوغ مستويات متماثلة في التشريعات العمالية والتأمينات الاجتماعية )، وان (توافق الدول العربية على توحيد شروط وظروف العمل بالنسبة لعمالها كلما أمكن ذلك )، والنص في الدستور على جعل (توحيد التشريعات العمالية وشروط العمل في الدول العربية كلما أمكن ذلك).
وقد كان هذا الهدف موضوع النقاش ليس منذ إدراجه في الميثاق والدستور وإنما قبل ذلك ، كما اشرنا سابقا ،فقد ذهب البعض إلى أن تحقيق هذا الهدف هو - ضرب من الخيال المتفائل - وهو يحتج في ذلك بعدة حجج ، منها :
1- أن هناك تباينا في طبيعة النظم السياسية في الدول العربية  وفي مناهجها الاقتصادية والاجتماعية ، وكما هو معلوم فان قانون العمل وقانون التأمينات الاجتماعية هما من فروع القانون الوطني الأكثر تأثرا بالمناهج السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية لأية دولة ، وعليه فان التباين القائم بين الدول العربية في هذا المجال سيجعل من المستحيل تحقيق مستويات متماثلة في هذه التشريعات .
2- إن الدول العربية تختلف في مدى تقدم التشريع الاجتماعي فيها ، فبعض هذه الدول ترجع فيه بواكير هذه التشريعات إلى الربع الأول من القرن الماضي، و بعضها الآخر لازال حديثا في هذا الميدان ، إذا لا تمده تجربته إلا سنوات قليلة وهذا الاختلاف من شأنه أن يعيق عملية بلوغ كمستويات متماثلة في التشريعات الاجتماعية في الوطن العربي .
3- إن الدول العربية تختلف فيما بينها في أصول تشريعاتها ، ففي الوقت الذي يمكن نسبة أصول التشريعات اغلب الدول العربية إلى المدرسة اللاتينية فإن قلة منها تنتسب إلى حد ما إلى المدرسة الأنجلوسكسونية ، بينما يعتمد عدد من هذه الدول الشريعة الإسلامية أصلا للتشريعات الاجتماعية ، وهذا التباين يسهم أيضا في عرقلة بلوغ مستويات متماثلة في التشريعات الاجتماعية في الوطن العربي .
ـ أما نحن فإننا نرفض هذه الحجج جملة وتفصيلا ، و ذلك لسبب منطقي عقلاني بسيط ، فلو صحت هذه الحجج لكانت من باب أولى سببا لاستحالة بلوغ مستويات  متماثلة على المستوى الدولي ،وهو ما ارتضت الدول العربية أن تكون ملتزمة به بانضمامها إلى منظمة العمل الدولية، فالتباين في النظام والبرامج السياسية و الاقتصادية والاجتماعية على مستوى العالم بأسره اكبر من تباين هذه البرامج و السياسات في الدول العربية ، فقد ضمت منظمة العمل الدولية في وقت واحد دولا رأسمالية ، و دولا كانت شيوعية ، و دولا أخرى اختارت طريقا خاصا بها ، وهي تضم دول العالم بأسره وهذه الدول تتفاوت في تاريخ التشريع الاجتماعي فيها، ففي حين كانت بعض دول أوربا مهد نشأة هذا التشريع منذ أكثر من قرن ونصف ،فان هناك دولا في مناطق أخرى من العالم حديثة العهد به ، أما بشان الأصول التشريعية و المدارس الفنية القانونية التي تنتسب إليها التشريعات الوطنية للدول الأعضاء في المنظمة الدولية ، فإنها تشمل الأصول و المدارس دون استثناء .
ـ إذن فان التجربة العالمية في هذا المجال تصلح دليلا قاطعا لإسقاط حجج القائلين باستحالة العمل الإقليمي العربي في مجال العمل والعمال ، و تؤكد أن المنطقي هو أن يقال أن الإمكانات العمل الإقليمي اكبر ، لا أن الدائرة التي يعمل فيها هي أضيق من الدائرة التي يعمل فيها العمل الدولي .
ـ إلا انه لغرض الوصول للمسألة إلى أكثر جوانبها دقة ، لابد من وقفة أمام الحقيقة ما يراد (بلوغ مستويات متماثلة ) و (توحيد التشريعات ) ،فقد تكون صياغة النصوص هي السبب في تصور استحالة العمل الإقليمي العربي في هذا المجال ، وقد يكون فهم النصوص ذاتها السبب في ذلك .
ـ على انه من الإشارة هنا إلى أن هذه المسألة واجهت جميع الجماعات الإقليمية التي قامت بعمل مشترك في هذا الميدان ، وهي المصطلحات تقريب و تقيس أي وضع مستويات  أو معايير ، إلا أن الهدف من كل ذلك ليس سوى تحقيق الانسجام بين تشريعات إقليمية معينة ، أي أن تصبح متلائمة مع بعضها  ، وهي بذلك تقترب في الهدف مع ما هو مرسوم لمنظمة العمل الدولية ودستورها ، إذ أن ما ترمي إليه من تنسيق السياسات الوطنية في مجال العمل ليس سوى حماية الحد الأدنى  من أحوال التقدم الاجتماعي المرضي الذي يجب توفيره لإزالة المنافسة الدولية الناشئة عن عدم احترام المستويات الدولية المتفق عليها .
ـ إلا أن الأمر في ما نراه في إطار منظمة العمل العربية في ضوء ما سبق أن اشرنا إليه من أن هذه المنظمة تعمل لتحقيق أهداف قومية و اجتماعية معا ، فان موجداتها التشريعية لابد أن تكون خطوات على طريق طويل يؤدي في النهاية إلى تشريع موحد  ،و لهذا فان نشاطها التشريعي يجب أن يهدف إلى تحقيق اكبر حد ممكن من التماثل بين التشريعات الدول العربية.
ـ على انه لابد من التذكير هنا بأن من الخطأ أن يتصور المرء أن ذلك يمكن أن يفسر على نحو بأنه يعني أن ما يجب أن تسعى إليه المنظمة في المستويات التي تصدر عنها هو أن تضع نصوصا تشكل في حد ذاتها قانون موحدا يطبق على نحو متماثل في جميع الدول العربية ، فمنهج التدريج في وضع القانون العربي للعمل أمر لا مناص منه في ضوء الواقع العربي الراهن ، ولهذا لابد من الانتقال التدريجي من العام إلى الخاص ، مع ترك دائرة للمشرع الوطني يعالج فيها التفصيلات الدقيقة بمراعاة الظروف الخاصة لكل دولة ، وهذا يقتضى أن تتناول الاتفاقيات العربية المبادئ العامة أو الكلية لكي تسمح عند التطبيق أو التفسير بمواجهة احتياجات كل دولة عربية .
ولا شك أن صياغة هكذا اتفاقيات و توصيات عربية ليس أمرا سهل المنال ، آذ انه لابد أن يصل المشرع في النهاية إلى صياغة مقبولة من قبل الدول العربية ، على الرغم من تباين في نظمها السياسية و الاختلاف في مناهجها الاجتماعية ، و الاقتصادية و تباين مستويات تطورها و تقدمها ، لهذا فهو مطالب هنا بان يتجنب محظورين خطيرين :
الأول :
وضع مستويات عمل متقدمة و متطورة موغلا في ذلك المثالية المطلقة ، إذ أن  هكذا مستويات سوف تكون غير قابلة للتصديق ، إذ تعرض الدول الأعضاء عن تصديقها لعدم الانسجام مع الظروف الاقتصادية و الاجتماعية ، ومثل هذه المستويات تفقد القدرة على تحقيق الهدف منها ، إما لعدم التزام أي من الدول بأحكامها ، أو التزام عدد محدود منها بهذه الأحكام.
الثاني:
ـ البحث عن ما هو مشترك بين التشريعات العربية النافذة و صياغته بشكل اتفاقية أو توصية ، و هكذا  صياغة يمكن أن تلقى قبولا من جميع الدول الأعضاء ،أو على الأقل من عدد كبير منها ، إلا أن هذا النوع من التشريع ليس اقل خطرا من النوع الأول فهو ليس أكثر من اتفاق – خادع – على مستويات موجودة فعلا , ولهذا فهو لن يحقق أي خطوة على الطريق الذي يجب أن تقطعه عملية التقريب بين التشريعات العربية وصولا إلى توحيدها .
ـ لذا فان ما يجب أن تسعى إليه المستويات العربية هو أن تكون وسطا بين المحظورين بحيث تشكل نصوصها نقلة نوعية في المضامين التي يجب أن تلتزم بها التشريعات الوطنية للدول العربية كافة دون إرهاق شديد لها بأعباء لا تستطيع حملها على انه لابد من القول هنا بان كل دولة عربية مطالبة بالتخلي إلى حد ما عن التمسك بنصوص قانونها الوطني تمسكا جامدا لا حيد عنه . لان أي تقارب بين أطراف عديدة لا يمكن أن يتحقق إذا ظل كل منها ساكنا في مكانه، فالمطلوب من الجميع التحرك معا إلى هدف مشترك يلتقون عنده ، ولا شك أن ذلك سوف يحمل البعض تضحيات ، من كل ما تقدم إلى أن العمل التشريعي الذي تقوم به منظمة العمل العربية هو عمل لا غنى عنه إذا ما أريد حقيقة بلوغ الغايات التي رسمها الميثاق العربي للعمل و دستور المنظمة ، سواء كان هذا الهدف نهائي هو بلوغ مستويات متماثلة – متى فهم هذا على انه درجة دون توحيد التشريعات – أو توحيد التشريع العربي في مجال العمل والتامين الاجتماعي كهدف نهائي ، فما دام هناك هدف ، فلا بد من وسائل لبلوغ هذا الهدف ، ولا خيار للمنظمة في هذا سوى الأسلوب الذي اعتمدته في إصدار الاتفاقيات و التوصيات .



 


مشاركة :
طباعة