معايير العمل العربية والدولية
وتأثيرها على تشريعات العمل
-1-
أحمد حباب
تجربة المعايير الدولية والعربية وتقويمها وتطويرها
1 -التعريف بالمعايير العربية والدولية
- أقام واضعو دستور منظمة العمل الدولية فلسفتهم –كما عبروا عن ذلك في ديباجة دستور المنظمة -على حقيقة أن إقامة سلام عالمي دائم ،لا يمكن تحقيقه ، إلا إذا أقيم هذا السلام (على أساس من العدالة الاجتماعية) .
- ومن هذه الحقيقة استنتجوا،أن(وجود ظروف عمل تنطوي على إلحاق الظلم والضنك والحرمان ،بأعداد كبيرة من الناس)، يمكن أن يبلغ من جسامته (أن يعرض السلام والوئام العالمي للخطر)،آخذين بالاعتبار أن (تخلف أي أمة عن توفير ظروف عمل إنسانية ،عقبة تعطل جهود غيرها من الأمم الراغبة في تحسين أحوال العمال داخل بلدانها).
- لذا أقروا دستور منظمة العمل الدولية ،التي أنيطت بها مهمة وضع معاير دنيا لشروط وظروف عمل إنسانية ، تلتزم الدول الأعضاء في المنظمة ،وعبر سنوات عمر المنظمة الدولية التي نافت على 95 عاماً ، نشطت في وضع هذه المعايير عبر جهازها التشريعي (المؤتمر العام )،الذي يصدر الصكوك الدولية التي تتضمن هذه المعايير ،إما بصيغة (اتفاقيات )أو (توصيات) ،وتطلق على ما تتضمنه هذه الصكوك تسمية مستويات أو معايير العمل الدولية ، كما يسميها البعض أحيانا القانون الدولي للعمل .
- ومن ناحية أخرى ، أقر مؤتمر وزراء العمل العرب في دورته الأولى المنعقدة ببغداد بتاريخ 1211965 بقرار رقم (1) الميثاق العربي للعمل ،ودستور منظمة العمل العربية.
- وجاء في المادة الرابعة من الميثاق (توافق الدول العربية على أن تعمل على بلوغ مستويات متماثلة في التشريعات العمالية والتأمينات الاجتماعية).
- وقضت المادة السادسة منه بأن (توافق الدول العربية على إعطاء الأولوية في التشغيل لعمال البلاد من غير مواطنيها بما يتفق وحاجاتها).
- وأكدت المادة العاشرة من الميثاق ما قررته مادته الرابعة بنصها على أن (توافق الدول العربية على توحيد شروط وظروف العمل بالنسبة لعمالها ، كلما أمكن ذلك ).
- وجعل دستور منظمة العمل العربية في مادته الثالثة من بين أهدافها (توحيد التشريعات العمالية وظروف وشروط العمل في الدول العربية ،كلما أمكن ذلك).
- وتنفيذا لهذه النصوص أقر مؤتمر وزراء العمل العرب في دورته الثانية المنعقدة في القاهرة في العام 1966 الاتفاقية العربية رقم (1) بشأن مستويات العمل ، بينما أقر في دورته الثالثة المنعقدة في الكويت عام 1967 الاتفاقية العربية رقم (2) بشأن تنقل الأيدي العاملة العربية .
- وجاء إقرار هاتين الاتفاقيتين قبل قيام منظمة العمل العربية التي كانت قد نصت على قيامها المادة الخامسة عشرة من الميثاق العربي للعمل ، وبذلك دلل وزراء العمل العرب على الجدية في تنفيذ ما اتفقوا عليه في مؤتمرهم الأول ،حيث جاءت الاتفاقية رقم (1) لتكون في واقع الحال أساسا لمشروع قانون عمل عربي موحد ، بينما جاءت الاتفاقية رقم (2) لتنظيم ما قضت به المادة السادسة من الميثاق بشأن إعطاء الأولوية في التشغيل للعمال العرب .
- وبعد قيام منظمة العمل العربية دخل النشاط التشريعي الإقليمي (العربي) في ميدان تشريع العمل والتأمين الاجتماعي مرحلة جديدة ، حيث اعتمدت المنظمة نهجا مماثلا- من الناحية الإجرائية –للنهج الذي سبقت إلى اعتماده منظمة العمل الدولية وأقر المؤتمر خلال الفترة (1971-1993) خمس عشرة اتفاقية وسبع توصيات تشكل بمجموعها ،مضافا إليها الاتفاقيتان اللتان اقرها مؤتمر وزراء العمل العرب ، ما يمثل مستويات أو معايير العمل العربية ،أو لنقل مجازا القانون الإقليمي العربي للعمل .
- وتختلف الاتفاقية عن التوصية (سواء بمقتضى النصوص دستور منظمة العمل الدولية أو نظام اتفاقيات وتوصيات العمل العربية)في قوة إلزامها للدول الأعضاء التي عليها بعد أن تتلقى نص الاتفاقية رسميا بعد إقرارها من المؤتمر العام في كل من المنظمتين ،أن تعرضها على السلطة المختصة بالتصديق ، وعليها أن تخطر المدير العام لكل من مكتب العمل العربي- بحسب الاختصاص – بما انتهت إليه إجراءات العرض ،بالتصديق أو عدمه ،فإذا حظيت الاتفاقية بالمصادقة أصبحت الدولة ملزمة بأحكامها ،تكون مسؤولة عن هذا إبلاغ المدير العام بالإجراءات التي اتخذتها لتسهيل هذه المصادقة.
- أما التوصية، فإنها لا تخضع لإجراءات التصديق ،وإنما تلتزم الدولة العضو بعرض التوصية على السلطة المختصة لاتخاذ الإجراء الملائم لتنفيذها ،ويكون على الدولة طبقا لمقتضى دستور منظمة العمل الدولية إبلاغ المدير العام لمكتب العمل الدولي الموقف القانوني والعملي للدولة إزاء المسائل التي تعالجها التوصية ، مع عرض المدى الذي تم بلوغه ،من إنفاذ أحكام التوصية.
- من ناحية أخرى، يتمثل الفارق بين الاتفاقية والتوصية من حيث المضمون في أن التوصية عادة ما (توسع أو تكمل اتفاقية )،وهذا يفسر لنا سبب اقتران العديد من الاتفاقيات بتوصيات تعالج الموضوع ذاته .
- غير أن ما تقدم ليس مطلقا ،فغالبا ما تأخذ المعايير (على المستوى الدولي بالذات ) شكل التدرج من التوصية إلى الاتفاقية ، وهذا ما يفسر لنا لماذا صدرت الكثير من المستويات ابتداء بصيغة توصية ، ثم تحولت في مرحلة لاحقة إلى اتفاقية .
- كما تجدر الإشارة إلى أنه طبقا لنص المادة (41) من النظام لمؤتمر العمل الدولي ،إذا لم يحصل مشروع اتفاقية ما ، لدى التصويت النهائي على أغلبية الثلثين اللازمة لإقراره ،ولكنه حصل على الأغلبية المطلقة ، يقرر المؤتمر فورا (هل تحال الاتفاقية إلى لجنة الصياغة كي ما تضعها في شكل التوصية ، فإذا أقر المؤتمر الإحالة إلى لجنة الصياغة ، تعرض المقترحات التي تشتمل عليها الاتفاقية على المؤتمر في شكل توصية قبل نهاية الدورة) .
2- تأثير المعايير الدولية والعربية على تشريعات العمل في الدول العربية
1- في تأثير المعايير الدولية:
ـ قد يكون اقتباس عبارة رئيس لجنة جائزة نوبل التي قالها سنة 1969 في حفل منح منظمة العمل الدولية جائزة نوبل بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها ،هذه العبارة التي جاء فيها (لقد أثرت منظمة العمل الدولية دائما على تشريعات كل البلدان)،قد يكون الاقتباس تمهيدا جيدا للدخول إلى هذا الموضوع .
ـ وبعيدا عن أجواء الاحتفال والتكريم ، يكون استئناس بما قاله الفقيه البريطاني جينكز في كتاب صدر له سنة 1963 حول الموضوع ذاته ، مدخلا ملائما أيضا إذا قال : (إنه في خلال اقل من نصف قرن خلقت منظمة العمل موسوعة قانونية للعدالة الاجتماعية ،التي كان لها تأثير كبير على تطور التشريعات الاجتماعية في كثير من الدول ). وقد ذهب الأستاذ جينكز إلى حد المقارنة دور هذه الموسوعة بدور القانون الروماني وقانون نابليون ، في ناحية التأثير في تشريعات الدول .
ـ وإذا كان ما أنجزته منظمة العمل الدولية قبل ثلاثين سنة ، يوم كان مجموع الاتفاقيات التي تصدرها لا تتجاوز مائة وعشرين اتفاقية .قد مكن هذا الفقيه إضفاء هذا الوصف على مجوداتها، فانه دون شك تأكد هذا الرأي واجبا في عام 1995 ،وقد نافت الاتفاقيات الدولية على مائة وسبعين اتفاقية ، وإلا بلغ عدد الدول الأعضاء في المنظمة عددا مماثلا (بعد أن كان عددها سنة التأسيس 1919 ،اثنين وأربعين دولة ) ، من بينها عشرون دولة عربية تفاوتت في تواريخ انضمامها إلى المنظمة تفاوتا بينا (كان العراق أول دولة عربية انضمت إلى المنظمة في العام 1932 ،تلتها مصر في العام 1936 ،وكانت آخر دولة عربية انضمت إليها عمان في العام 1994).
ـ أما تأثير معاير العمل العربية ،فهو دون شك لم يبلغ ما بلغه تأثير المعايير الدولية ،فحجم هذه المعايير ظل محدودا لم يتجاوز سبع عشرة اتفاقية وسبع توصيات وقد تباينت تصديقات الدول العربية على الاتفاقيات تباينا واضحا ،مع الإشارة إلى أن جميع الدول العربية قد انضمت إلى المنظمة خلال فترة امتدت من العام 1965 إلى العام 1983 (كانت العراق أول دولة انضمت إلى المنظمة في مايو من عام 1965 تلتها سورية من العام ذاته ، وكانت عمان آخر دولة انضمت إليها في يناير ت عام 1983 ).
فإلى أي مدى أثرت كل من المستويات الدولية والعربية على التشريعات الوطنية للدول العربية ؟
ـ ليس هناك أدنى شك في أن هذا التأثير يمكن تلمسه بأكثر من صورة وصيغة ،إذ لا يكاد يخلو قانون عربي من مظاهر تأثيره بهذه المعايير، إلا أن كم ونوع هذا التأثير اختلف من قانون إلى آخر لأسباب عديدة.