الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال

دراسات عمالية

الصفحة السابقة »

المسؤوليـة الثقافيـة



المسؤوليـة الثقافيـة

عرف الباحثون الثقافة بأنها كل تشابك يعتمد على عقيدة الأمة ونظرتها للإنسان والكون والحياة ، وعلى فلسفتها ومثلها يضاف إلى ذلك التقاليد والعادات والقوانين والتعليم والأخلاق والفنون والعمارة .. ، ونستطيع أن نستخلص من ذلك أن الثقافة لا تتحدد في مجرد الكتابة والقراءة ، بل هي الإنسان نفسه ، هي الوجه والميسم والعنوان الذي يجسد حركة الزمن وثبوت المكان ، وهي الهوية التي يحملها الإنسان ، وبها يتعامل مع مختلف التجارب ، وبها يتصرف ويتحدث ويعمل ، وإننا حين نتحدث عن أمة كأمتنا العربية لا نستقطع هاجسها الراهن فحسب ونقع فقط في حدثها اليومي ، بل إننا نسترجع ماضيها ونستشرف مستقبلها عبر ما قدمته من تراكمات ثقافية ، متمثلة في تاريخها المديد الحافل بكل المنجزات الحضارية ، وآية ذلك ما نراه مدونا في الكتب ، ومسطورا في الرسائل والمخطوطات ، ومجسدا في الذهنية العربية التي قدمت وتقدم غوالي إبداعاتها سعيا لاستعادة ميراثها الثقافي والحضاري الشامل .
وانطلاقا من ذلك فإننا حين نتحدث عن الثقافة الآن علينا أن نمد بسط اليقين المتسائل ، وأن نفسح المجال لأن تتقدم الخبرة والكفاءة لتزكو حياتنا بما يتطلبه الوقت الراهن والقادم من الحفاظ على جوهر روحنا المتمثل في خصالنا الثقافية ، وأن نعيد تقييم منجزاتنا السابقة تقييما يرفعها من درجة النظرية إلى درجة التطبيق ، وأن نحل ما قد تحقق من رؤى إيجابية محل ما قد يبدو من سلبيات ، باعتبار أن الثقافة هي مسؤوليتنا جميعا التي نتوخى عبرها تحقيق أكبر قدر ممكن من رقي مجتمعنا وتقدمه ، ومن هنا علينا أن نحدد بالضبط الدور الذي ينبغي أن تنهض به مؤسسات الدولة إزاء الثقافة سواء مؤسسات ثقافية كانت أم غيرها من المؤسسات التعليمية أو الصناعية ، لأن غايتنا المنشودة هي الوصول إلى الإنسان المثقف .
وفي مجتمعنا تنتشر المراكز الثقافية والأندية الأدبية وجمعيات الفنون والثقافة فضلا على ما تقدمه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة من فاعليات ثقافية ، بيد أن ذلك لن يتجلى بارزا إلا من خلال المتابعة الجادة من قبل هذه المؤسسات من جهة ومتابعة ما تقدمه من جهة ثانية ، لأن صناعة الإنسان ثقافيا تتطلب وقتا وجهدا وفيرا للوصول على مستوى حضاري تنويري مأمول لفهم تفاصيل حياته ومجتمعه والعالم من حوله ، وهناك فارق بالطبع ما بين التعليم والثقافة ، فالطالب عليه ألا يكتفي بالحصول على الشهادات أو الانتقال من مرحلة تعليمية إلى مرحلة تعليمية أخرى ، فهذه  نقطة أولية جدا في رصيده الثقافي ، بل عليه أن يتساءل دائما وأن يوثق علاقته بالمكتبات وبما تتيحه آليات الثقافة الأخرى في الصحف والإعلام والمراكز الثقافية والندوات ، وان ينشط من الوجهة التقنية لاستثمار أجهزة التكنولوجيا وتقنية الاتصالات واستخدام شبكة الإنترنت وما إلى ذلك من وسائل ، فالثقافة حكمة العصر ن بل هي حكمة كل عصر ، والحكمة ضالة المؤمن ينشدها في كل زمان ومكان .
أن الدور المنوط بالمؤسسات المختلفة عليه أن يبرز قيمة الثقافة وأن يفرض على الطالب في مدرسته ، والعامل في مصنعه ، والإداري في مؤسسته إحساسا ثقافيا تجعله يسلك سبلا من البحث والمعرفة وذلك لاستلهام الخبرة وتسخير ذلك في زيادة وعيه من جهة وزيادة إنتاجه من جهة أخرى ، كما أنه يعز علينا أن نرى هذا الوقت الطويل الضائع الذي يهدره الفرد في الجلوس أمام شاشات التلفاز والتحديق في ما تقدمه القنوات الفضائية ، من دون البحث عن قنوات أخرى موصلة كالكتاب والمحاضرة والندوة والحوار ، وكل ما يزكي إدراكه وينمي حواسه ، وتحوله من مجرد مستهلك لقيم الأسواق الفضائية إلى إنسان فاعل ونشط في البحث عن يقينه الثقافي ، والبحث عما ينمي ويدعم حياته ومجتمعه وهويته .
وليس معنى ذلك هو إغفال دور الإعلام وما تبثه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وخصوصا الفضائيات ، بل هو الإشارة إلى أن هناك أدورا أغلى وأعز من الممكن أن تقدمها مؤسسات أخرى للفرد ، ولن تنهض الثقافة في الهواء الطلق ، بل لابد من المشاركة الفردية ، وتربية الحواس الإنسانية على قيمة الثقافة التي هي عنوان الأمة ومرآتها ، والتي من دونها لن يتحقق أي انطلاق حقيقي أو رقي حضاري بيّن ، ولابد من الإشارة هنا إلى أن هناك خليقون بتمثل طموحاتهم أمثال العلماء والكتاب والأدباء والمثقفين والتربويين .. ، فهولاء وغيرهم ممن عليهم تقع تبعة المسؤولية الثقافية والمعرفية والتوعية ، هؤلاء هم الوجه الحقيقي ولكي يتألق هذا الوجه أكثر وتنصع قسماته ، ينبغي أن يعمل هؤلاء بجد على نقل خبراتهم ومعارفهم إلى أفراد المجتمع ، وأن ينزلوا إلى المراكز الثقافية والمؤسسات المختلفة ، وأن يعقدوا صلات مباشرة مع كل فئات المجتمع في المؤسسات التربوية والاجتماعية والعلمية لتوصيل قيم الثقافة الحقة وتقديم رياضة عقلية وروحية ، تنقل الفرد من رتابة العمل اليومي على متعة الاكتشاف ، وذلك لترسيخ الإنسانية الراقية المهذبة ، والمواطنة الصالحة الصادقة المنتجة ، وبالتالي نؤكد دور الثقافة باعتبارها نسيج المجتمع وإكسير حياته الحضارية ووجوده الفاعل .
وأخير لابد من التأكيد على مسؤولية الفرد وذلك من خلال المشاركة في المنتديات الثقافية المختلفة حضورا يعضد به هويته وينمي إدراكاته ، ومن هنا سوف يكون لكلماته وتساؤلاته  دور ، ومن هنا يبني حجرا في رواق الثقافة ، من هنا سوف تتحدد ملامح المجتمع وملامح الهوية ، فالثقافة هي النبراس الذي يضيء ، وهي القنديل الذي يسطع ، وهي المصير الذي نتوحد عليه وبه نواجه تحديات المستقبل .


د . خالد البكار


 


مشاركة :
طباعة