شلل في أوصال التعاون السكني وفساد بعض مجالس إدارات الجمعيات السكنية
شكل موضوع السكن والإسكان الهاجس الأساسي للمواطنين على مدى عقود طويلة، حيث يعتبر المسكن هو عامل الاستقرار الأول للإنسان، وهو الحاجة الماسة التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تأجيلها، وهي لا تحتمل حلول وسطية، فمن المعروف أن أول مطلب للإنسان هو الحصول على مسكن آمن وصحي وتتوفر فيه الشروط الضرورية لبناء الأسرة.
ونقول إن المسكن كان وما زال ويبدو أنه سيبقى الهاجس الأساسي والأول للمواطن، بالنظر إلى ما يحيط هذا (المشروع) من صعوبات ومعاناة على الفرد أن يواجهها وأن يكون قادراً على مواجهة التحديات المختلفة، وأهمها التحدي المادي، حيث إن أسعار البيوت والعقارات في مختلف المدن والمناطق تعتبر مرتفعة جداً، في وقت نجد أن دخل الشريحة الأوسع من المواطنين لا يمكن الفرد من شراء منزل صحي وآمن وتتوفر فيه الشروط الفنية والهندسية المطلوبة حتى لو قام بادخار كامل دخله لمدة عشر سنوات أو أكثر..!!
المعادلة المستحيلة
هذه المعادلة التي لم تتمكن الجهات المعنية من إيجاد حل لها، شكلت على مدى عشرات السنين العائق الأكبر في وجه المواطنين، في وقت بدا فيه دور الجهات الحكومية خجولاً وغير ذي جدوى في ضوء الطلب الكبير على شراء المنازل، حتى الجمعيات السكنية التي كان معول عليها أن تكون الرافعة الحقيقية وصاحبة الدور الأهم في المساهمة بحل مشكلة السكن، وجدت نفسها أمام جملة من العقبات والصعوبات، كان أهمها مسألة عدم تخصيصها بمقاسم صالحة للبناء، إلى جانب غير ذلك من التحديات.
تهرب من المسؤولية
وبدلاً من أن تسعى الحكومة والوزارات المعنية بشأن السكن لاجتراح حلول ووضع برامج عمل وخطط لتخليص المواطن من هذه المعاناة، يخرج علينا المعنيون في وزارة الإسكان والأشغال العامة بتصريح محبط ومخيب للآمال، يتضمن نفي أن تكون الحكومة قادرة على أن تتعهد بتأمين المساكن لجميع المواطنين، وأن هذا الأمر يجب أن تساهم فيه جمعيات التعاون السكني والقطاع الخاص وشركات التطوير العقاري، فمؤسسة الإسكان تساهم في توفير جزء من المساكن إلى جانب دورها في تأمين الأراضي للجمعيات والجهات الأخرى.. وكذلك البنى التحتية للجمعيات المخصصة بأراض، وأن وزارة الإسكان حالياً تقوم بتشجيع شركات التطوير العقاري لأخذ دورها في هذا الجانب ضمن ما يسمى الاستراتيجية الوطنية للإسكان.
أين مرتسمات الاستراتيجية الوطنية؟
وهنا يمكننا أن نأتي على بعض النقاط، حيث نجد أن هناك استراتيجية وطنية للإسكان، وهذا الكلام نسمعه منذ سنوات، أي أنه وبموجب هذه الاستراتيجية كان بالإمكان حل جزء من مشكلة السكن عن طريق هذه الاستراتيجية، ثم إن اعتراف الوزارة بعدم قدرتها على تلبية الطلب على المساكن لا يعفيها من المسؤولية عن نشوء عشرات مناطق المخالفات التي تكونت على مدى عقود وكانت هي الحل الوحيد أمام المواطنين وذوي الدخل المحدود، بعد أن تركت الساحة خالية ليلعب بها تجار العقارات وليتلاعبوا بأهم مطلب من مطالب الحياة الكريمة للإنسان والمواطن، وبعد أن أطبقوا قبضاتهم بإحكام على قطاع العقارات، في وقت تعطل فيه دور الجمعيات السكنية وغاب دور المؤسسات المعنية بالسكن والإسكان إلا من بعض مساكن الادخار أو الإسكان ولآجال طويلة.
ولعل تجربة السكن الشبابي في بعض المحافظات لدليل واضح على التلاعب بحاجات المواطنين الأساسية والمتاجرة بها، حيث تأخرت في بعض المحافظات، كما أن جودة تنفيذ بعضها لم يكن بالمستوى المطلوب.
السكن العشوائي كان الحل
حتى مناطق السكن العشوائي والمخالفات لم تسلم من جشع التجار والمضاربين في قطاع العقارات حيث شهدت دخول واسع لرؤوس الأموال التي حولت بعض تلك المناطق التي كانت معظم منازلها بطابق واحد أو طابقين بأحسن الأحوال ومسقوفة بألواح توتياء، حولتها إلى مدن ذات أبنية طابقية مرتفعة بعضها يتجاوز العشر طبقات، الأمر الذي أشعل الأسعار مرة أخرى حتى في مناطق السكن العشوائي وتحولت إلى حلبات مضاربة كبيرة كان المواطن هو الخاسر الوحيد فيها..
وقد لا يتسع المجال هنا للحديث عن الكثير من المشكلات التي تولدت في تلك المناطق نتيجة لدخول الاستثمار العقاري إليها، حيث بدأت تظهر مشكلات عانى منها السكان كثيراً نتيجة الضغط الكبير على شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء وحتى الطرق التي لم تكن مخصصة لهذا الحجم الكبير من الكثافة السكانية..!!
جمعيات مشلولة
وإن كانت الحكومة تعول على الجمعيات السكنية في المساهمة بالتخفيف من حجم المشكلة فإنه من باب أولى أن يتم توفير الظروف المناسبة لعمل تلك الجمعيات ومراقبتها، وذلك بتأمين الأراضي اللازمة والتمويل من خلال قروض المصرف العقاري، إلى جانب التوسع بالمخططات التنظيمية وتأمين خدمات البنى التحتية، وضبط أسعار مواد البناء للحد من فروقات الأسعار وتمكين الجمعيات من تثبيت السعر دون أية زيادات نتيجة ارتفاع أسعار الحديد أو الاسمنت أو غيرها من مواد البناء أو الإكساء.. التي تؤثر بمجملها على كامل سعر المسكن وتصعب مهمة الجمعيات السكنية التي تعمل لتأمين السكن المناسب للمواطنين بأقل الأسعار وبأفضل الشروط الصحية والفنية والهندسية.
وهنا لا بد من مراقبة عمل هذه الجمعيات حتى لا تتحول إلى بؤرة استغلال أخرى للمواطنين، خاصة وأن السنوات الماضية شهدت حالات كثيرة من ممارسات قام بها أعضاء مجالس إدارات في جمعيات سكنية كان الهدف منها تحصيل ثروات ضخمة على حساب المكتتبين.. وسمعنا عن ملفات فساد كبيرة في عدد من الجمعيات السكنية في مختلف المحافظات.
أداء باهت
وعن دور المؤسسة العامة للإسكان فإن الواقع يظهر أرقاماً خجولة عن أداء هذه المؤسسة على مدى عشرات السنين، حيث تشير إلى أنه ومنذ إحداث المؤسسة وحتى الآن قامت بإنجاز حوالي 74 ألف مسكن، منها مساكن ادخار وسكن شبابي ومساكن عمالية ومساكن شعبية ومساكن أساتذة جامعات، وذلك في مختلف المحافظات وليس في محافظة واحدة، ما يعني أنها وعلى مدى حوالي ثلاثين عاماً أو أكثر كانت حصيلة عملها هذا الرقم الذي يبدو متواضعاً جداً أمام الإمكانات المتاحة أو التي يمكن أن تتاح لمثل هذه المؤسسة العامة التي تعتبر الذراع الأهم للحكومة في مجال السكن والإسكان، وهو ما يدفعنا للسؤال عن الأسباب التي حالت دون تحقيق أرقام مهمة في مجال السكن، ربما تكون أضعاف هذا الرقم.
وفي هذا الجانب نجد أن مشكلة الاعتمادات هي العامل الحاسم الذي أثر على أداء المؤسسة وهذا ما تؤكده التصريحات الرسمية من وزارة الإسكان التي تتحدث عن رفع نسبة تنفيذ المساكن في المؤسسة من نحو 2000 مسكن إلى حوالي 7 آلاف مسكن سنوياً نتيجة زيادة الاعتمادات المرصودة لها إضافة إلى التمويل الذاتي للمؤسسة، وفي هذا تشير الأرقام إلى أن حجم الاعتمادات المرصودة للمؤسسة لتنفيذ المساكن وصل إلى 33 مليار ليرة لمشاريع العام الحالي 2018.
شركات التطوير العقاري
أما فيما يتعلق بشركات التطوير العقاري والدور المأمول منها، فإننا نجد ومنذ عام 2008 تاريخ إحداث الهيئة العامة للتطوير والاستثمار العقاري والتي أتاحت الترخيص لمثل هذه الشركات، نقول أنه ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم نلمس أي دور واضح لهذه الشركات، لا بل على العكس ولعلنا نتذكر كيف أن بعض الشركات لعبت على هذا الوتر بخبث وقامت بالإعلان عن مشاريع إسكان لكن تبين أنها مشاريع وهمية وهناك عدد من المواطنين خسروا أموالهم بعد أن جذبتهم الدعاية إلى الاكتتاب ببعض تلك المشاريع، حيث استخدمت في عملية الدعاية وسائل ترغيب كبيرة وتم الإعلان عن عروض مغرية بالدفعة الأولى والأقساط الشهرية، إلى جانب مواقع البناء والمساحات التي ستبنى وغير ذلك.
وهذا الأمر انعكس سلباً بعد أن تبين أن بعض تلك الشركات والتي منها لم يكن مرخصاً، كانت عبارة عن جهات جمعت أموال المواطنين الحالمين بمسكن العمر، وغادرت دون أن تحقق لهم حلمهم في الحصول على مسكن آمن وصحي ومناسب.
حديث جاد ومسؤول
إذاً عندما نتحدث عن ملف السكن والإسكان لا بد من تذكر معظم التجارب والمحطات التي مرت بها هذه التجربة، وإن كان هناك جدية وسعي حقيقي لحل مشكلة السكن فلا بد من الاستفادة من الثغرات والتحديات التي واجهت تحقيق أبسط حلم للإنسان والمواطن، والانطلاق نحو مشاريع إسكان حقيقية تراعي مستويات الدخل المنخفضة والمتهالكة للشريحة الأوسع من المواطنين، والتي هي الشريحة التي تشكل الطلب الأعلى على السكن، وعدم استغلال هذه الحاجة وتحويلها إلى فرصة استثمارية بيد حفنة من تجار العقارات والبناء الساعين إلى مراكمة ثروات طائلة على حساب أحلام المواطنين وآمالهم بعيش أكثر احتراماً وكرامة لهم ولأسرهم وعائلاتهم.
محمود ديبو