غسل الأدمغة البشرية وصناعة الإيديولوجيات
د . إبراهيم الصعبي
منذ فجر التاريخ وعمليات غسل الدماغ تلعب دورا أساسيا في تغيير أيديولوجيات الأفراد والجماعات ، ولكن هذه العمليات كانت تأخذ خطوات غير منظمة وأحيانا غير مقصودة ، فكانت تمارس ولكن دون معرفة حقيقة لأثرها وطبيعتها ، وحتى إبان الحرب الكونية الثانية لم يكن مفهوم غسيل الدماغ بشكل واضح . فأول من ابتكر اصطلاح غسيل الدماغ صحفي أمريكي يدعى ( إدوارد لنتر ) في الحرب الكورية ، عندما رجع الجنود الأمريكيون من الأسر وقد تغيرت معتقداتهم حول قضايا كثيرة ، فقد عادوا يحملون أفكارا عن السلام منافية لما تقوله حكومتهم ، كما أن بعض الجنود فضلوا البقاء في كوريا الشمالية لاعتقادهم الجديد بأنها وطن حر وديمقراطي ، وكان ذلك كله يعود لعمليات غسيل الدماغ المقصودة والمنظمة التي تعرضوا لها أثناء الأسر .
وبالرغم من المحاولات الواسعة إيجاد معنى واحد أو تعريف موحد لمفهوم غسيل الدماغ إلا أن هذه المحاولات لم تنجح تماما بعد ، ولكن التعاريف في مجملها تتجه نحو موضوع واحد .
التعريف النفسي : وهو يعني تخليص الفرد من أفكار وسلوك مكتسب والتعويض عنه بأفكار جديدة ، أي إنه يدل على عملية تطهير وطرد عادات وأفكار وميول اكتسبها عقل الإنسان في وقت معين ، ويعرف أيضا بأنه كل وسيلة تقنية مخطط لها ترمي إلى تحويل الفكر أو السلوك البشري ضد رغبة الإنسان أو إرادته أو سابق ثقافته وتعليمه . وعملية غسيل الدماغ تتخذ هنا طابع التعذيب النفسي للفرد أو الجماعة تحت برنامج مخطط وبأسلوب علمي مدروس ، يهدف إلى تدمير سمات الشخصية الإنسانية من أجل غرس سمات ومميزات جديدة .
التعريف السياسي : هو بمثابة محاولات مخططة وأساليب سياسية معينة لإقناع الطرف الآخر بأفكار سياسية جديدة ، وترك ما سبق من أفكار ومفاهيم سياسية ، فينشط غسيل الدماغ في الحروب وخصوصا في الحروب الباردة ، وكذلك في ميادين سياسية أخرى ويتبع في تحقيق ذلك وسائل مختلفة تتركز على إثارة الجهاز العصبي ، وهناك نفقات هائلة تنفقها الدول الكبرى في هذا الجانب ، حيث تنفق على الإذاعات والمؤلفات والنشرات والأشرطة من أجل التغيير في عقم الدول التي لا تقف في صفها أو تدور في فلكها السياسي .
التعريف الاجتماعي : فيعني أن الدعاية وأساليب وتغيير الآراء والاتجاهات التي تشنها دولة ضد دولة ما هي إلا نوع من غسيل الدماغ ويتم بشكل جماعي للشعوب .
التعريف الثقافي : حيث يتضمن نقطتين : 1 – الاعتراف بخطأ الفكر والسلوك السابق . 2 – إعادة التعليم والتثقيف . وهذان العنصران متشابكان بشكل كبير بسبب تأثيرهما المزدوج في تغيير الاتجاهات للفرد في المجتمع ويتضمن ذلك النواحي الثقافية . ويمكن الاستنتاج من التعاريف السابقة أنها تتضمن جانبين هامين :
أ – تعويض الفرد لمؤثرات مختلفة فعالة تضعه في حالة يمكن معها أن يتخلى عن أفكاره ومعتقداته القديمة التي اكتسبها من الجماعة التي عايشها سابقا ، وهنا يحدث الشق الأول من عملية غسيل الدماغ حيث يطهر الدماغ من الأيديولوجيات السابقة .
ب – وحتى تتم عملية غسيل الدماغ بشكل مكتمل ، فيجب أن نغرس أفكارا ومفاهيم جديدة في عقل الإنسان بدل التي أزيحت في الشق الأول .
إن نشاط الدماغ الإنساني يقف وراء كل أنماط السلوك المختلفة ، وبذلك فقد احتل الدماغ أهمية كبيرة ، فالدماغ يقوم بمثابة الشاشة البيولوجية فيعكس عليها ماتوصله الحواس ولا يكتفي بذلك بل تتم هناك تفاعلات وتهذيب للصور المتبلورة للحوادث ضمن الأطر الزمنية المتتالية ، وكل خلية عصبية تعمل وفقا للقوانين السائدة في الكائن الحي ككل ، حيث الدافع ثم اختيار إحدى احتمالات الاتصال الممكنة ثم تحليل النتيجة وأخيرا الإجابة المطلوبة ، ومن المعروف أن الدماغ يحوي 14 مليار من النيرونات ويحوي احتياط آخر من النيرونات ينشط عند الضرورة حيث أن لكل نيرون ( النيرون وحدة الخلايا الدماغية ) خمسة آلاف قناة اتصال ، وهناك أجهزة تدعى المكروالكترونات بإمكانها تسجيل ورصد الشحنات الكهربائية التي تتم في الخلايا العصبية ، والأفكار الإنسانية – وهي غير المادية وليس لها حيز – تختزن في هذا الجهاز المعقد ( الدماغ ) ومن هنا جاءت فكرة غسيل الدماغ الإنساني ، أي تخليص هذا الجهاز المادي المكون من مليارات النيرونات من شيء لا مادي يكمن فيه ويؤثر على سلوك الفرد وهو مجموعة الخبرات والأفكار والمعتقدات ، من هنا كانت ضرورة فهم الخلفية الثقافية للفرد الذي يراد غسيل دماغه وفهم الطريقة التي يفكر بها وخبراته المكتسبة وهي التي في مجموعها تكون الأيديولوجية التي تحدد أنماط سلوكه .
أما السمات النفسية والعقلية التي لها علاقة بعملية التفكير فتلعب دورا هاما في مساعدة وإنجاح عمليات غسيل الدماغ ، فالرموز التي يستخدمها الدماغ كوسيلة لخزن الخبرات هي من أهم الخصائص التي يعتمد عليها العقل في التفكير وعملية الاتصال ، فالدماغ من أجل تبسيط المفاهيم والخبرات الآتية عن طريق الحواس ، فإنه يقوم بتحويلها إلى رموز من أجل عملية تبويبها ، وهذه الرموز في تراكمها تكون ما يعرف بالخبرات ويستغل هذا في عملية غسيل الدماغ حيث يمكن استغلال الرمز بشكل معين يؤدي إلى انتشار الاستجابة العاطفية القوية لدى الأفراد القوية لدى الفرد ، وبما لها من ارتباط حتمي بين الرمز وعملية تبسيط وتنظيم الأفكار . كما وأن لاستغلال الاستجابات العاطفية الغريزية أهمية في عملية غسل الدماغ وتغيير المعتقدات عند الأفراد ، وتلاقي العملية نجاحا إذا كان الأفراد ينتمون لمجتمع يسوده التخلف الثقافي والتربوي ، حيث يكون مجمل أنماط سلوكه قائمة على إشباع الحاجات الغريزية ، وليس على الدوافع المهذبة ، كذلك تستفيد عملية غسيل الدماغ من استغلال استجابات الأفراد للدوافع الغريزية .