الحديث عن المدن الصناعية السورية تلك التجربة الحديثة العهد نسبياً يترافق دائماً بالحديث عن جملة من التحديات التي لم تكد هذه المدن تبدأ تؤتي أكلها حتى أتت الحرب، واستهدف الإرهاب معاملها وخطوط الإنتاج فيها بشكل مخطط ومدروس، ليحفر في الذاكرة صورا مؤلمة للتخريب والدمار والنهب، خاصة ذاك الذي شاهدناه في مدينة الشيخ نجار الصناعية بحلب، وسرقة المعامل فيها، وغير ذلك من صور مؤسفة في أماكن أخرى، لكن في المقابل بدا واضحا أن المدن الصناعية قدمت رهاناً ناجحاً في أماكن أخرى حين استمر الإنتاج فيها رغم ظروف الحرب الصعبة، والحصار الاقتصادي، وكانت هذه المدن إحدى أهم المقومات التي ساهمت في تماسك الاقتصاد السوري واستمراره، واليوم يُنتظر أن تقف المدن الصناعية على أبواب مراحل جديدة تضع في حساباتها إجراءات عملية وتشريعية جديدة، تجذب الصناعيين ومشاريعهم إليها، وتعيد النهضة الصناعية فيها، ولاسيما في مرحلة إعادة الإعمار المقبلة.
مؤشرات وأرقام
ومن المؤكد أن المؤشرات والأرقام المرتبطة بالمدن الصناعية ستكون أكثر إيضاحاً للدور الذي قامت به هذه التجمعات خلال الفترة الماضية، فاليوم بلغ حجم الصناعات في المدن الصناعية الأربعة 7 ترليونات ليرة سورية، وهناك أكثر من 2500 معمل باختصاصات صناعية منوعة قيد الإنتاج، ساهمت بتأمين ما يقارب 132 ألف فرصة عمل عبر المدن الصناعية القائمة، كذلك هناك 3170 معملاً قيد البناء، وأكثر من 1800 مكتتب جديد على مقاسم في المدن الصناعية، وذلك بحسب تقارير لوزارة الإدارة المحلية، أما في الشيخ نجار فكان لعودة الكهرباء وتحرير مناطق جديدة من حلب الدور الأكبر في عودة أكثر من 426 معملاً للإنتاج، وعن واقع المدن الصناعية، والتجمعات الصناعية الأخرى حيث أكدت مديرية المدن الصناعية على أن الواقع الصناعي اليوم مقسم بين ثلاثة تجمعات منها المدن الصناعية، والمناطق الصناعية، والتجمعات الصناعية الحرفية، حيث أحدثت المدن الصناعية الأربع في سورية بموجب مراسيم تشريعية خاصة 3 منها أحدثت عام 2004 بموجب المرسوم التشريعي رقم 57 وهي (عدرا، حسية، والشيخ نجار)، أما الرابعة فأحدثت بموجب المرسوم التشريعي رقم 110 عام 2007 في دير الزور، وهناك المناطق الصناعية والحرفية حيث من المفترض ألا يوجد مخطط تنظيمي لمدينة أو بلدة كبيرة إلا ويلحظ في ببعض أجزائه منطقة حرفية وصناعية وله برنامج وظيفي وتخطيطي لاستيعاب الصناعات والحرف في كل وحدة إدارية، ويؤكد المرسوم التشريعي رقم /2680/ وهو مرسوم تنظيمي، أن صناعات الصنف الثاني لا ترخص ترخيصاً دائماً إلا ضمن المدن والمناطق الصناعية.
لا للعشوائيات
وعن خطورة التجمعات الصناعية العشوائية التي نشطت وازدادت خلال فترة الأزمة، حتى وإن كانت نظريا قد أسهمت في تعويض بعض الأضرار التي أصابت خطوط الإنتاج وأصحاب المعامل والصناعيين، قالت المديرية: منذ أن صدر البلاغ رقم 10 عام 2003 الذي سمح بإقامة بعض الصناعات بترخيص مؤقت خارج المناطق والمدن الصناعية شرط أن تنتقل لاحقاً إليها ظهر لدينا تجمعات عشوائية وصناعية كبيرة، فأصبح لدينا 68 منطقة صناعية عشوائية كبيرة تحقق اشتراطات البلاغ، وكان ملاحظاً أن هذه الموافقات والرخص تمنح بشكل عشوائي من قبل المعنيين دون استثناء، وهذا أمر كنا نعمل على معالجته، وطلب من الصناعيين الموجودين في المناطق الصناعية والحرفية العشوائية تشكيل لجان لتسوية وضعهم، وإقامة مخطط تنظيمي وقرار إحداث وقلب التراخيص المؤقتة إلى تراخيص دائمة ويصبح لهم نفس الامتيازات التي يحصل عليها الصناعي والحرفي في المناطق الصناعية، لكن في الأزمة وجدنا الكثير من المدن والمناطق التي خرجت عن الخدمة، وبالتالي سمحنا لهم حتى تتحسن الظروف، وبالتأكيد يجب في مرحلة قادمة أن يتم تنظيم كل هذه المناطق، وإعادة استيعابها في مقاسم مجهزة فنيا وخدميا.
استيعاب ومناطق محدثة
والملفت أن المدن، والمناطق الصناعية التي كانت في أماكن مستقرة استوعبت المدن والمناطق التي كانت في المناطق الساخنة، فمثلا: في المدينة الصناعية بعدرا كان هناك أكثر من 660 صناعياً أتوا من المناطق الساخنة وتم استيعابهم، وكذلك الأمر في حسياء، وفي المناطق الساحلية، وفي المناطق الصناعية أيضا حيث تم إحداث مناطق صناعية جديدة في المناطق الآمنة والمستقرة، لاستيعاب الهجرة، وتأمين احتياجات المجتمع المحلي كما في السويداء "أم الزيتون"، وطرطوس التي تم تعديل نظام ضابطة البناء فيها، وإضافة طابق إضافي، كما أحدثنا ثلاث مناطق جديدة في الدريكيش، والشيخ بدر، وصافيتا، وفي بانياس، وفي اللاذقية تم إحداث مناطق صناعية جديدة في الحفة وجبلة والقرداحة، وفي حمص بالحواش، وفي القنيطرة ومصياف، والسلمية، أي أكثر من 12 منطقة جديدة، وفي ذروة الأزمة عندما كانت المدينة الصناعية بحلب خارج الخدمة طلب بعض الصناعيين الذهاب للساحل، لكن لم نكن نمتلك الكثير من المساحات، فكان الاتفاق مع إدارة المناطق الحرة في الميناء الساحلي لملء المساحات الشاغرة في الميناء البري، ثم تراجع الصناعيون بعد تحسن الأوضاع في حلب خاصة أن لديهم عناقيد صناعية متكاملة، ويصعب تنفيذها إلا في تلك المدينة الاقتصادية.
عناقيد متكاملة
وهناك إمكانيات كبيرة يمكن أن تتوفر عند الصناعي السوري سواء من ناحية الأفكار أو الخطط أو الصناعات المنفذة, فكل صناعة ممكنة ولدينا إمكانيات هائلة للتصنيع، ويمكن أن ننفذ صناعات متقدمة من الكترونية وغيرها لكن يجب أن نبدأ بهذه الصناعات بالتدريج، خاصة تلك التي لدينا لها أساس من مواد أولية ومنتجات زراعية، فأي صناعة وفق أنظمة الاستثمار الحديثة يفترض أن يتوفر فيها حدا أدنى 40% منتج محلي، حتى تكون ذات جدوى اقتصادية، ولنكن واضحين فأول تجربة لسيارات التجميع شام وغيرها من سيارات صينية مما حدث مؤخراً لا يوجد فيها حتى 1% منتج محلي، وهذا الأمر بات معروفا أنه فقط للالتفاف والهروب من الجمارك، فهذه الخطوط كلها عبارة عن خطوط تجميع وليس إنتاج، والتجميع لا يحمل أي قيمة مضافة، والإضافة فقط للتجار الذين يملؤون جيوبهم ويهربون من القوانين والأنظمة، في المقابل شددت الحسن ضرورة إحياء الصناعات التي لدينا فيها عناقيد صناعية متكاملة، وتمكننا من صنع أشياء نتميز فيها، مثلاً المنتج السوري بالنسبة للصناعات النسيجية اسم كبير يجب التفكير باستثماره كذلك الصناعات الغذائية والحمضيات والخضار يمكن تصنيعها بمواصفات عالية ومادتها الأولية متوفرة، والفستق الحلبي كذلك يمكن أن تكون إيراداته مرعبة إذا ما تم تنظيم استثماره، والملفت أنه وقبل الـ 2005 لم يكن لدينا تجمعات صناعية لكن اليوم لدينا عناقيد صناعية خاصة في الصناعات الجلدية والنسيجية، ويجب التركيز عليها.
هيئة عامة
في المقابل تحدث المحامي منير الحمد، وهو باحث في الاستثمارات الدولية، عن كون المدن الصناعية اليوم بحاجة ماسة لتطوير التشريعات والقوانين والأنظمة الحالية، بما يتناسب مع المرحلة القادمة، ففي كل دول العالم هناك هيئة أو مؤسسة عامة للمدن الصناعية، لكن يقتصر هذا الأمر عندنا على مديرية مركزية، وقال: يجب أن يكون للمدن الصناعية هيئة عامة لها مجلس إدارة يجتمع فيه كل مديري المدن لتخطيط استراتيجي، ويجب الترويج للاستثمار في سورية، والعمل على خطط لجذب أكبر كم من المستثمرين فاليوم نحن بحاجة لأي مشروع استثماري فيه فائدة للبلد، ويؤمن حاجة السوق للقطع، ونحتاج للحفاظ على العمالة الفنية بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي ووزارة التربية، وإقامة معاهد وتجمعات ترفد المدن الصناعية بخريجين لديهم اختصاصات لتشغيل المدن الصناعية، ونأمل بتسهيلات مختلفة تساهم بعودة المستثمرين في مرحلة التعافي، فكل رجل أعمال سيعود عندما يكون هناك استقرار أمني فهم يعلمون ما هي سورية وما هو الاستثمار في سورية، وأكمل: يجب دعم الصناعيين لاستكمال مشاريعهم التي كانت متوقفة عبر سنوات الحرب في المناطق الصناعية التي استولى عليها المسلحين خاصة في حلب والحسكة ودير الزور، والاهتمام بدور المغتربين الذين يمكن أن يساهموا في خطوط إنتاج جديدة بالمصانع.
ملامح واضحة
أحد خبراء الاقتصاد أكد ضرورة الحاجة الماسة لسياسة اقتصادية واضحة المعالم تنتهجها سورية في المرحلة المقبلة وفترة إعادة الإعمار، فبعد تشخيص المشكلة واستعراض الواقع الصناعي في سورية وتحديد نقاط القوة والضعف فيه على أرض الواقع نجد أن العديد من المشاريع لا يمكن تطبيقها إن لم ترافقها قوانين وسياسية اقتصادية واضحة تربط كل هذه الأمور، خاصة أن السياسة الاقتصادية الحالية غامضة فلا توجّه لاقتصاد سوق اجتماعي، ولا اقتصاد سوق حر ولا أي نوع من الاقتصاديات، وللأسف بعد أن بدأت سورية تأخذ منحى سياسة اقتصادية محددة في بداية الـ2000 وبدأت الاستثمارات تؤتي أؤكلها في نهاية الـ 2009 وبدأ الصناعي السوري بالتفكير بتطوير الصناعات البسيطة وإدخال تقنيات حديثة، أتت الأزمة وأنهت كل ما تم البدء فيه، فالصناعي لا يمكن أن يفكر بصناعات أكثر تقدماً إلا حين يشعر بالاستقرار، ولا يمكن أن يبدع وهو محصور بقوانين جامدة، من ناحية أخرى فالكثير من التراخيص الصناعية بحاجة لإعادة دراسة.
هلا نصر
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي