ليست وليدة الأزمة، لكن الأزمة أضرمت النار فيها ليعلو لهيبها من جديد... وليست المرة الأولى التي تعلو فيها الأصوات مناشدة أصحاب العلاقة بإيجاد حل جذري مع أصحاب العقارات الذين لم تعد آلاف الليرات تشبع أفواههم لقاء تأجير عقاراتهم... وها نحن نقترب من السنة الثامنة من عمر الأزمة وما زال ارتفاع الإيجارات وحالة العشوائية التي يشهدها السوق العقاري يشكلان مشكلة مزمنة للمواطنين والمقيمين على حد سواء في ظل غياب آليات قانونية وإدارية تضبط إيقاع سوق العقارات، لتصبح وسائل "تطفيش" المستأجر من قبل صاحب العقار جزءاً أساسياً من يومياته.. واليوم وقد شهدت الكثير من المناطق حالة من الاستقرار والأمن رافقها جنون هستيري في أسعار العقارات لتفوق آجارات المنازل في ريف دمشق الجنوبي تحديداً "جديدة عرطوز- قطنا وصحنايا" الخمسين ألفاً للمنزل دون أثاث، في حين وصلت في تلك المناطق إلى المئة ألف للشقق المفروشة مع غياب كامل لأعين المحافظة والجهات صاحبة القرار عن هذه الأسعار.
ضحايا استغلال
كثيرة هي القصص التي نسمعها خلال يومنا عن معاناة المواطنين الذين اضطروا لترك منازلهم والبحث عن أماكن أكثر أمناً، ليكونوا ضحايا استغلال وجشع أصحاب العقارات فأمام حاجة المواطن للإيجار بدأ أصحاب العقارات والمكاتب العقارية بزيادة الضغط على المستأجرين من خلال تحميلهم كلفة تسجيل العقود في الدوائر الحكومية المعنية، وكذلك التلاعب بحقيقة الأسعار المعلن عنها في العقد، كما أن جميع المؤجرين لا يقبلون إلا بتقاضي قيمة الإيجار المتفق عليها وعن كامل المدة المحددة في العقد مسبقاً وقبل توقيع عقد الإيجار، وهنا لا يملك المستأجر إلا الرضوخ لرغبة المؤجر، إضافة إلى قيام مالكي الشقق السكنية بتأجيرها لفترات قصيرة تتراوح بين ثلاثة أشهر وستة أشهر طمعا بزيادة الأجرة للمؤجر نفسه أو لغيره، والبعض الآخر قام ببناء وحدات سكنية دون تحقيق المواصفات بهدف تأجيرها خاصة في مناطق السكن العشوائي، وعند تداول أي شائعة بزيادة في الرواتب نشهد سباقاً بين أصحاب العقارات لرفع أجرة عقاراتهم متناسين أن أغلب من هجروا من منازلهم هم أصحاب مهن خاصة دمرها الإرهاب، لتسبق تبريراتهم اتهامات المواطنين المهجرين بأن ارتفاع الأسعار يعود إلى كثرة الطلب على الشقق هذه الأيام من قبل الناس وقلة المعروض في السوق وبأن الاعتماد الحالي للمواطنين في تأمين قوت الشهر لا يتوقف على الراتب الذي لا يكاد يسد الرمق بل على مدخراتهم سواء كانت عقارات أو أراضي أو حتى البحث عن أعمال إضافية غير وظيفتهم عسى ولعل يستطيعون إكمال شهرهم دون الحاجة لمد طلب العون من أحد، لذلك نجد أصحاب العقارات وجدوا ضالتهم في رفع الأسعار تماشياً مع ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والمشتقات النفطية دون الأخذ بالحسبان انخفاض سعر الدولار الذي كان لابد أن ينعكس بشكل ايجابي على حالة السوق بشكل عام وسوق العقارات بشكل خاص، لكن ما شهدناه على أرض الواقع هو العكس تماماً.
حلول بديلة
ولا يمكننا أن نغض النظر عن الكثير من العائلات التي هجرت من منازلها سواء من محافظات أخرى أو حتى من ريف دمشق، هذه العائلات التي لا تستطيع دفع أجرة لمنزل في دمشق أو حتى في ريفها بعد أن أصبحت الأجرة لغرفة واحدة تعادل راتبا شهريا لموظف، ليكون الحل الوحيد أمام هذه العائلات هي مراكز الإيواء أو الحدائق أو حتى المنازل التي لا تزال ورشات البناء تقوم بتشييدها حيث نجد الكثير من العائلات وجدت ضالتها في هياكل الشقق هذه لتدرأ عنها برد الشتاء وحر الصيف تحت سقف ليس لهم وشقة بلا أبواب أو حتى نوافذ تقيهم من البرد، في المقابل وجدنا عائلات أخرى قامت باستئجار منزل بالاشتراك مع عائلتين أو ثلاث مشاركة في دفع الأجرة كمسكن مشترك بما يخفف ثقل الأجرة المرتفعة والتي تصدرتها مدينة دمشق من بين جميع المحافظات إذ وصل إيجار شقة سكنية في منطقة أبو رمانة بين 80 و 100 متر حوالي 500 ألف ليرة سورية، وهناك شقق في منطقة المالكي يصل إيجارها الشهري إلى حوالي مليون ليرة سورية كذلك يمكن أن تجد أسعاراً أقل في مناطق أخرى كمنطقة الزاهرة، حيث وصل إيجار المنزل فيها بين 150 و200 ألف ليرة، في حين يوجد مناطق على أطراف العاصمة كصحنايا وجرمانا وقدسيا تتراوح الإيجارات فيها بين 50 و 75 ألف ليرة سورية مع العلم أن هذه المناطق تفتقر للمواصلات وللكثير من الخدمات.
مكاتب الكترونية
وتنتشر عشرات الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي متخصصة ببيع العقارات، تعرض شققًا ومحال تجارية في مختلف المناطق السورية، وأغلب هذه العقارات للبيع وليست للشراء، في خطوة يفسرها المتابعون لحركة السوق على أنها رغبة من قبل الملّاك ببيع بيوتهم وممتلكاتهم بداعي السفر والهجرة، إذ يمكن لمتتبع صفحات بيع وتجارة العقارات على "فيسبوك" أن يلحظ إقبالًا على الإيجار على حساب الشراء، وذلك بسبب ارتفاع أسعار العقارات الباهظ، فلا يمكن لمن يرغب بالعيش ضمن أحياء مدينة دمشق أن يجد منزلًا بأقل من 50 مليون ليرة، دون فرش، ولا يمكن لمن يرغب باستئجار منزل أيضًا أن يفعل ذلك دون أن يدفع 150 - 200 ألف ليرة شهرياً.
قرارات استثنائية
كثرت المطالب بإيجاد حل اسعافي لسوق العقارات وقلّت الآذان المصغية لهذه المطالب فبرأي المحامي "علي عمران" أنه لابدّ اليوم من وضع دراسة وضع العقارات، ووضع حلول وأنظمة لضبط العلاقة بين المستأجر والمؤجر، خاصة تنظيم عمل المكاتب العقارية لحفظ حقوق المؤجر والمستأجر، فرغم أن القانون رقم 6 لعام 2001 حاول ترميم أو إلغاء الثغرات التي تكرست في ذهن المواطن أكان مستأجراً أم مؤجراً، وكانت خطوة متقدمة إلا أننا في أزمة نحتاج إلى قوانين أزمة تحفظ كرامة المواطن، وتجعله متمسكاً بوطنه، فالقوانين نظمت لخدمة المواطن وليس لمن يعتبر بلده فندقا يغادره متى ساءت الظروف.. ولا بد من التدخل سريعاً في سوق العقارات ومحاربة الظواهر الفاسدة والابتزاز في مجال الإيجارات والإخلاءات، وإذا كان من غير المستطاع إصدار قوانين استثنائية فلا بد من إصدار قرارات استثنائية تنظم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، ومن وجهة نظر "عمران" فإن الحلول تبدأ من الناس أنفسهم وخاصة مالكي العقارات، فالأخلاق قبل القانون، لأن القانون ينظّم علاقة، ولكنه لا يُوجد خلقاً، فيتوجب على أصحاب العقارات تحكيم ضميرهم وتقدير ظروف من دفعتهم الأزمة لأن يكونوا باحثين عن مأوى، والإسراع من قبل الدولة قدر الإمكان بإيجاد أبنية مسبقة الصنع تضم العدد الأكبر من الأخوة المشردين.
حالة مؤقتة
يشهد سوق العقارات حالة تأرجح بشكل مستمر حتى قبل سنوات الأزمة، لذا فإن حالة الهستيريا التي وصل إليها هذا السوق هي حالة طبيعية ضمن هذه الظروف التي نعيشها حسب رأي الخبير الاقتصادي "محمد كوسا" حيث إن عملية تأجير المنازل أصبحت من أكثر المهن المربحة في وقتنا الحالي، لعدم ثباتها عند تسعيرة معينة وربطها بالدولار، فلم يعد هناك فرق في الإيجار بين العقارات النظامية والمخالفات، ولا فرق بين أسعار البيوت الجديدة أو القديمة، وقدّر كوسا نسبة الزيادة السنوية للعقارات السكنية خلال الأزمة تراوحت بين 50-70 % للعقارات السكنية والمحلات التجارية دون مراعاة أخلاقية لظروف ومعاناة الأسر، مؤكداً على أن ارتفاع الإيجارات السكنية سيستمر إلى ما بعد الـ 2020 إلا في حال تدخلت الدولة بإصدار قرارات استثنائية خلال الأزمة تحدد نسبة الزيادة السنوية في أسعار العقارات التي تشهد حالة من الفوضى والعشوائية، وسترافق انتهاء الأزمة حملة إعمار بدأت اليوم بوضع الدولة لخطط مستقبلية لهذه الحركة وإصدار طابع خاص بالإعمار، وستساهم شركات إعمار عالمية في مشاريع إعادة إعمار سورية بعد الأزمة، وهذا سيسهم بشكل طبيعي في إنهاء العمل وإعادة إعمار البلد خلال فترة زمنية قصيرة، بالتالي وحسب القاعدة الاقتصادية فإن زيادة العرض ستؤدي إلى خفض الأسعار بشكل حتمي.
دعاوى
وتغلب قضايا الإيجارات التي تنظر بها محكمة الصلح على باقي القضايا ، فقد بلغ عدد الدعاوى الموجهة لمحكمة الصلح عام 2016 حوالي 30100 دعوى فُصل منها حوالي 1500 دعوى، ونصف هذه الدعاوى هي دعاوى إيجارات وأغلبها دعاوى تخمين أو إنهاء العلاقة الايجارية أو طلبات الإخلاء.. وهذا ما يتطلب من المرحلة القادمة من إعادة الإعمار بأن لا تكون مثل المرحلة السابقة لأن المسكن أصبح أولوية، إذ تغير مفهوم السكن فأصبحنا نفكر بسكن سريع الإنشاء ورخيص نسبياً، لذلك يجب أن تكون المخططات واضحة والمشروعات جاهزة للتنفيذ، وألا نتأخر في فترة ما بعد الأزمة بالانطلاق بسبب وجود الكثير من العائلات بلا مأوى أو عمل، فالتأخير لن يكون مسوغاً حينها، ويجب أن يكون كل شيء جاهزاً من أجل التنفيذ والانطلاق، وأن تكون الصورة واضحة لدى جميع الجهات الحكومية والخاصة لمرحلة إعادة الإعمار بكل معانيها، حتى نفسياً وأخلاقياً.
ميس بركات
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي