الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال

الأخبار » تحقيقات

الصفحة السابقة »

الأمراض الإدارية في المؤسسات العامة ... مشكلة قائمة ومعالجتها رهن بتوفر إرادة حقيقية للإصلاح..

2017-07-16 12:17:52

على مدى أكثر من أسبوعين لم تهدأ التصريحات والتحليلات والبرامج والحوارات التلفزيونية والإذاعية والصحفية عن أهمية الإصلاح الإداري وضرورة إنجاز هذا المشروع الذي يدفع باتجاه تحقيق نتائج أفضل على صعيد أداء المؤسسات العامة وينعكس إيجاباً على نوعية الخدمات المقدمة للمواطنين ويشيع حالة من الارتياح من خلال تقليل حلقات الروتين والتعقيدات والدوائر التي يضطر المواطن للدخول بها كلما احتاج للحصول على خدمة ما..
فمنذ أن أطلق السيد الرئيس بشار الأسد مشروع القياس الإداري والإصلاح الإداري خلال ترؤسه اجتماع الحكومة الشهر الماضي انبرى عدد من المسؤولين والمعنيين لإطلاق تصريحات لا تعدو كونها كلاما عاما لا يستند إلى رؤية مدروسة ومحددة، وأكثر ما يمكن أن يقال فيها أنها كلام لمجرد الكلام للإيحاء للمتلقي بأن هذا المسؤول هو (أفهم) واحد بالإدارة والإصلاح الإداري، وأن المؤسسة التي يديريها تكاد تخلو من أي عقبات أو متاعب، بالنظر إلى السلوك الإداري المطبق بها..
وبات إقحام كلام مدبج عن مشروع القياس الإداري هو السمة الأبرز لمختلف التصريحات التي بدأنا نسمع بها، ومن جديد بدأت الاجتماعات تعقد في هذه المؤسسة أو تلك لبحث واقع التطوير الإداري فيها.. وللحقيقة فإن ما يطرح ويشار إليه في بعض هذه اللقاءات والاجتماعات يعتبر (فيما لو طبق) مفتاحاً مهماً لحل العديد من المشكلات والتخلص من الكثير من المظاهر التي سادت في عدد من الدوائر الحكومية العامة والتي أدت إلى تراجع الأداء وانتشار الفوضى والفساد والرشاوى، والكثير من الأمراض الإدارية التي أصابت الجسم المؤسساتي ونالت منه في أكثر من موضع.
ففي اجتماع وزير الاقتصاد مع المديرين المركزيين والمفاصل الإدارية المختلفة الذي عقد الأسبوع الماضي سمعنا كلاماً مهماً عن ضرورة مكافحة الفساد والمحسوبيات ووضع المواطن على رأس سلم أولويات العمل الحكومي، وطرحت أفكار وآليات لتطوير العمل المؤسساتي بما يتوافق مع مسار العمل، وتمت المطالبة بضرورة أن يتم الارتقاء بأداء مؤسسات القطاع العام لتضاهي القطاع الخاص في مستوى جودة الأداء والخدمات.
ولأن العامل والموظف هو حجر الأساس في عملية الإصلاح الشامل فقد جرت المطالبة بضرورة تحسين وضعه المعيشي وتوفير الخدمات العامة بأقصر وقت وبأعلى جودة ممكنة.
وكما هي العادة في كل مرة فقد طلب وزير الاقتصاد من المفاصل الإدارية في الوزارة العمل على إعداد (مذكرات) تتضمن أفكاراً ومقترحات للتطوير الإداري لتتم دراستها وصياغتها وتوحيدها بمرجعية واحدة صادرة عن الوزارة لموافاة الجهات المعنية بها.
ومن بين المفردات التي رشحت عن هذا الاجتماع نجد الكثير من الجمل التي لو تم تطبيقها لحصلنا على نتائج جيدة في مجال الارتقاء بأداء العمل المؤسساتي العام ولوصلنا إلى مراحل متقدمة في التخفيف من الروتين والفساد الإداري..
حيث نقرأ في تلك التصريحات (الارتقاء إلى مستوى إداري عالي الكفاءة)، (إشباع حاجات ومتطلبات المواطنين)، (النهوض بالأداء الإداري في القطاع العام ليكون بالشكل الأمثل).
وتضمنت تلك التصريحات اعترافات صريحة بوجود خلل واضح في الأداء الإداري العام ومنها (وجود قناعات بأن الخدمة التي يقدمها القطاع الخاص أكثر جودة من خدمات القطاع العام)، (وجود علل إدارية متراكمة في القطاع العام)، (الأزمة وتداعياتها ليست هي السبب الوحيد في وجود الخلل)، (العمل الحكومي لا يتمتع بمستوى عال من الكفاءة والإنتاجية)، (إنتاجية العامل في القطاع العام لا تتجاوز 25-30 دقيقة في اليوم الواحد).
ومن بين سيل المصطلحات التي تم استخدامها في تلك التصريحات والاجتماعات نجد (اعتماد التنظيم المؤسساتي وتبسيط الإجراءات، وأتمتة الدورات المستندية، ومكافحة الخلل والفساد الإداري، والاستجابة لشكاوى المواطنين، وتحقيق رضا المواطن وتقديم خدمات جيدة وتحقيق تكافؤ وظيفي للوصول إلى رضا العاملين في القطاع العام....
والمتابع لملف الإصلاح الإداري الذي بدأ منذ العام 2000 وجرت محاولات عديدة لبلورة ملامح واضحة لهذا الملف الذي تاه بين عشرات المذكرات والدراسات والمخاطبات الحكومية التي ساهمت بروتينها وبيروقراطيتها بوأد هذا المشروع قبل أن يولد ووضعت العصي بعجلاته وساهمت في سد مختلف الطرق المؤدية إلى الهدف المنشود منه، فبقي حبراً على ورق في أدراج المعنيين والإدارات والوزارات دون أن نلمس منه أي تطبيق عملي.
ولنا أن نتخيل هنا حجم الأموال العامة التي أنفقت تحت هذا الشعار، على شكل دورات تدريبية بمختلف المجالات (إدارة، كمبيوتر، لغات،...) إلى جانب البعثات التدريبية والتعليمية التي كانت تضع برامجها هيئة تخطيط الدولة ويتم في كل عام إرسال عشرات الموظفين لاتباع دورات في الإدارة والحصول على تدريب عالي المستوى في هذا المجال في دول مختلفة..
هذا إلى جانب القرطاسية التي احتاجتها الدراسات والمذكرات والكتب وإعادة هيكليات عدد من الوزارات بحجة التطوير الإداري ولنا هنا في وزارة السياحة خير مثال حيث تمت إعادة الهيكلة الإدارية للوزارة عدة مرات خلال أقل من عشر سنوات، وفي كل مرة يتم إلغاء مديريات وإحداث مديريات بتسميات جديدة، وإحداث تسميات وظيفية بعضها كان يفصل على مقاس ما يفكر به بعض المعنيين، بما يضمن حصر الكثير من القضايا بإدارة واحدة...
لكن كل هذا لم ينتج إلا مزيداً من الروتين والتعقيدات الإدارية والفساد الذي تراكم على مدى سنوات ليصبح هو القاعدة، ويبقى الاستثناء هو السلوك الإداري الصحيح، والذي أصبح مستهدفاً من قبل قوى الفساد والفاسدين الذين لا يروق لهم أن يكون هناك صفحات بيضاء ناصعة بينهم، فيتم العمل على استعداء الكوادر الكفوءة  والمهنية والخبيرة والنظيفة والراغبة بالعمل بجد وبإخلاص، وإحلال محلها كوادر أخرى لا تتوفر لديها الخبرة والكفاءة والمهنية (فقد أصبحت هذه المعايير غير مطلوبة في الكثير من المواقع الإدارية، وأصبح المطلوب فقط هو قدرة الشخص على التماهي مع السلوك الإداري الفاسد ومسايرة الإدارات والتماشي مع رغباتها في تحقيق مصالحها الشخصية على حساب المؤسسة العامة)..!!
يقول عدد من الموظفين في واحدة من أهم المؤسسات الخدمية التي ترتبط خدماتها ارتباطاً مباشراً بالحياة اليومية للمواطنين: لقد كان قرار إنهاء تكليف المدير العام السابق للمؤسسة مفاجأة كبيرة لنا ولجميع من لديه فكرة عن هذا الشخص الذي كان يعمل ليلاً ونهاراً ويتابع بجدية ودأب مستمرين لاستمرار وصول الخدمة للمواطنين، وهو الذي خبر العمل على مدى سنوات طويلة وتدرج في العمل الوظيفي ما أعطاه المزيد من الخبرة والمهارة والمعلومات، واستطاع توظيف واستثمار الكوادر البشرية في المؤسسة خير استثمار، حيث كان لقربه من العامل ومحبته له وتعاونه مع جميع العمال والفنيين دور كبير في الإسراع بحل أي مشكلة قد تحصل مهما كانت كبيرة، وقد كسب محبة الجميع، هذا إلى جانب نظافة كفه وحسن سلوكه وسمعته الطيبة..
ويسأل العمال: لماذا تم استبعاد هذا المدير ليحل محله مدير جديد أقل منه خبرة وكفاءة ودراية، في وقت فيه معظم التوقعات تشير إلى إمكانية ترقية المدير السابق أو على الأقل المحافظة عليه في موقعه الإداري كمدير لمؤسسة خدمية حساسة تقدم خدماتها للمواطنين..
ومن بين هذه التساؤلات انطلقت همسات تشير إلى مدى ترابط وجود وزير جديد مع هذا التغيير، ومدى (تخوف) البعض من هذا المدير الذي استطاع باجتهاده ومثابرته تحقيق سمعة طيبة في محيطه المهني وفي أوساط أخرى خارج العمل، وهل يا ترى تنحيته عن منصبه الإداري وتسميته (مستشاراً للوزير) فيه خدمة للعمل أكثر، ونحن نعلم أن المستشار هي وظيفة شكلية في وزاراتنا ومؤسساتنا لا تعدو كونها (منصباً فخرياً) فالمستشار لا يستشار في بعض مؤسساتنا ودوائرنا العامة بحسب العرف العام المتداول..!!
وبالعودة إلى ما نص عليه علم الإدارة وحيثيات نشوئه وضروراته نجد أنه من العلوم التي تحمل جانبين نظري وعملي تطبيقي، أي أنه لا يكفي أن نتغنى بالنظريات الإدارية لهذا العلم ونتشدق على المنابر بمعرفتنا لبعض المصطلحات الإدارية ونكتفي باستخدامها في الخطب واللقاء الصحفية، بل يجب أن تلقى ترجمة عملية على أرض الواقع من خلال تطبيق تلك النظريات والمصطلحات بشكل جدي.
فبالأساس جاءت نشأة علم الإدارة كحاجة ماسة لحل الأزمات المختلفة وحالات الارتباك التي ظهرت والتحديات والتعقيدات التي واجهت منظمات الأعمال المختلفة في العالم خلال العقود الأخيرة بالتزامن مع التطور الصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي الهائل الذي حدث، وهو علم يقوم على تحديد الأهداف ووضع السبل اللازمة للوصول إليها من خلال توظيف كامل المهارات والخبرات المتوافرة في المؤسسة والإمكانات المادية والمعنوية، من خلال عمل جماعي متكامل تقوده إدارة كفوءة قادرة على صنع القرار واتخاذه بالشكل الذي يخدم أهداف المؤسسة وغاياتها..
ومطلوب من العقل الإداري في المؤسسة أن يعمل على تنظيم العمل ورصد الأهداف الرئيسية والفرعية ووضع الخطط والبرامج التي توصل إليها عبر جملة من الوظائف التي تبدأ بالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، ومن ثم اتخاذ القرارات السليمة والقدرة على التطوير والمنافسة..
وعليه فإن ضرورة امتلاك القائمين على الإدارات العامة لمبادئ وأسس علم الإدارة تأتي من أهمية هذا العلم في دراسة آليات الاختيار المنهجي للأهداف المحددة، وتوفير أدوات إدارة الموارد البشرية والموارد المادية في المؤسسة بالشكل الأمثل.
كما أن مفهوم الإدارة الناجحة يؤكد على ضرورة بذل الجهود بشكل متواصل من قبل مجموعة من الأفراد العاملين (وهنا مؤشر قوي على أهمية العمل الجماعي في الإدارة والعمل كفريق واحد)، بما يؤدي إلى إنجاز الوظائف الإدارية التي تبدأ بالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة والمتابعة والإشراف والتقييم، وإشراك المهارات المختلفة، إلى جانب إعداد التقارير والتغذية الراجعة التي يتم من خلالها قراءة مؤشرات الأداء.
وعليه فإن النجاح الذي نتطلع إليه جميعاً في أداء مؤسساتنا العامة ليس أحجية وليس مستحيلاً، لا بل إن تحقيقه يعتبر ممكناً جداً إذا ما توفرت الإرادة القوية لدى الإدارة العليا للمؤسسة في توجيه القدرات والإمكانات المتوافرة، والسعي بها لتحقيق الأهداف العامة للمؤسسة، لكن ما نراه اليوم في بعض من جوانب العمل الإداري العام يبتعد كثيراً عن روح علم الإدارة، ويختلف معه في طبيعة السلوك، الذي نجده حالياً يتجه لتحقيق المصالح الشخصية على حساب المؤسسة، وبناء علاقات عامة إستراتيجية تخدم الموظف المكلف بإدارة المؤسسة، بما يضمن له استمرار جلوسه على الكرسي وربما ترقيته إلى منصب أعلى من توظيف كل مقدرات المؤسسة بهذا الاتجاه.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم سلوك بعض الإدارات التي تعادي وتستبعد الكفاءات والخبرات وأصحاب الخبرات المهنية والعملية العالية، وتحرم المؤسسة من قدراتهم في العمل، وهذا ما يفسر التراجع الواضح في أداء عدد من مؤسساتنا العامة الخدمية والاقتصادية والمهنية والإعلامية وغيرها، إذ إن تغليب المصالح الشخصية على مصلحة المؤسسة وبالتالي على مصلحة الوطن من شأنه أن يخرج العمل الحكومي عن مساره وسكته الصحيحة ويدفع به باتجاه مزيد من التراجع والتقهقر، المتمثل بأداء هش وضعيف وغير محقق للأهداف التي من أجلها أحدثت مثل تلك المؤسسات، إلى جانب المساهمة في هدر المال العام وإضاعة فرص النجاح في العديد ممن المجالات، وهذا يؤدي بدوره إلى توسيع رقعة الفساد، بعد أن تقوم تلك الإدارات باستقدام مجموعات عمل تدور في فلكها وتسعى لتحقيق مصالحها، مقابل الحصول على مكاسب هي الأخرى، وهنا نجد أن معظم مجموعات العمل التي يتم استخدامها في مثل هذه الدوائر العامة لتحقيق مصالح الإدارة الشخصية لا تتوفر لديها الكفاءة والمهاراة والخبرة، وتوضع في مواقع إدارية تكون فيها صاحبة قرار ويخضع لها الموظفون الذين يمتلكون الكفاءة والمهارة والخبرة، وبالتالي نجد أن مثل هذه المعادلات تصبح مستحيلة الحل لأنها مقلوبة وغير صحيحة، فمن يجب أن يكون في موقع القرار والإدارة أصبح تابعاً لمن هو أقل منه كفاءة وخبرة، وهذه طامة كبرى يواجهها العمل الإداري وهناك أمثلة كثيرة لمثل هذه المخالفات الإدارية في مؤسساتنا العامة، التي تقوم على المحسوبية في الانتقاء وعلى المزاجية في كثير من الأحيان، وخوف بعض الإدارات (غير الكفوءة) من أصحاب الكفاءات والخبرات والمهارات، لذلك تلجأ تلك الإدارات إلى تهميش الكفاءات وإقصائها عن دوائر العمل المهمة وفي كثير من الأحيان معاداتها لتبقى هي ومن يدور في فلكها مستحكماً بزمام الأمور، وكل ذلك طبعاً على حساب مصلحة الوطن والمواطنين والمؤسسات وعلى حساب المال العام الذي يستغل من قبل بعض تلك الإدارات ويذهب إلى جيوبهم، وإلا كيف يمكن تفسير (حالات الانتعاش) المفاجئة التي تطرأ على بعض الموظفين محدودي الدخل، ومظاهر الترف المفاجئة التي تتجلى ببيوت وسيارات وشاليهات ونفقات يومية لا تتناسب مع مستوى دخله الشهري..؟؟؟؟؟؟؟
إن نظرة متأنية لما يجري في بعض مؤسساتنا العامة يجعلنا ندرك أن امتلاك علم الإدارة وتفاصيله وأدواته وآلياته شيء مهم وضروري ويعتبر مقدمة للنهوض بالأداء الحكومي العام، لكن قبل كل هذا لا بد من توفر الأخلاق والتي هي من ضمن ما نص عليه أيضاً علم الإدارة، فبدون أخلاق حسنة وإرادة واعية لمصلحة الوطن لن يكون هناك أي خطوات إصلاحية على مستوى الإدارة العامة في المؤسسات والوزارات، وإن بقاء التفكير من منطلق المصلحة الشخصية والمحسوبيات كما هو حاصل الآن سيكون من شأنه تعميق المشكلة وتجذيرها في العقول والأذهان وسيبقى الفساد الإداري معشعشاً في أروقة مؤسساتنا العامة، ولن تقوى كل علوم الإدارة ومفرداتها على إخراجه منها...!!
إن أي عملية إصلاح يجب أن تقوم على مبادئ محددة، وإن أهم ما يجب القيام به هي اعتماد مبدأ المحاسبة والعقاب بمقابل مبدأ تكريم المجدين والنزيهين بالعمل وجعلهم قدوة للآخرين، وإلا سنبقى ندور في حلقات مفرغة وسيبقى الفاسدون والمستفيدون والمستغلون لمواقعهم الإدارية يكرسون نفس السلوك الإداري، وستبقى كفاءاتنا وخبراتنا المهنية في شتى المجالات مهدورة على قارعة الطريق فيما نجد أن المتسلقين والمنتفعين في مواقع القرار الإداري المختلفة يعملون على بقاء تلك الخبرات خارج إطار العمل حتى لا تكون منافسة لها وتبعدها عن مواقعها...؟؟؟
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي

محمود ديبو


مشاركة :
طباعة

أُترك تعليقك