كثيرة هي الحالات التي عرفناها خلال السنوات الست عن فقدان الأطباء لعياداتهم وأماكن سكنهم وتقديمهم طلبات لوزارة الصحة للنظر في وضعهم وإيجاد بدائل لأماكن عملهم، إلّا أن تلك المحاولات باءت جميعها بالفشل، ولعل المثال الذي استدعانا اليوم لطرح هذا الموضوع هو أحد الجيران لنا والذي كان يملك عيادته ومنزله في منطقة ساخنة تم استهدافها من قبل الإرهابيين وتهجير وقتل من كان بها، فاضطر للخروج هو وعائلته دون أن يأخذوا معهم حتى ملابسهم، وبعد أن قدّم طلب توظيف لوزارة الصحة في أحد المشافي أو المستوصفات التابعة لها جاءت الموافقة بعد عدة أشهر أمضاها متنقلاً هو وعائلته بين منازل الأقرباء، لكن “يا فرحة ما كملت”، إذ إن التوظيف كان في مستوصف عدرا العمالية التي شهدت بعد تعيينه بشهرين استيلاء للمجموعات الإرهابية المسلحة، ليبقى وضعه ووضع من نجا معه في عهدة وزارة الصحة من جديد والتي أطالت التفكير ليكون الخيار الوحيد له هو السفر للخارج بعد أن عجز عن دفع إيجار المنزل وتراكمت ديونه لتصل إلى حد لا يقدر على تحمله، حاملاً أطفاله وشهادته علها وعسى تفيده في بلد آخر…
استهداف للأطباء
حالات كثيرة لأطباء نجوا من الموت بأعجوبة، كان التخطيط لاغتيالهم هدفاً من أهداف المجموعات الإرهابية المسلحة وأخرى كان الموت قدراً لهم من هؤلاء الكفرة ومنهم العميد الطبيب عيسى الخولي مدير مشفى حاميش والعقيد الطبيب هيثم يوسف اليونس الذي كان يعمل في مشفى حرستا وغيرهم الكثير ممن تم اغتيالهم في عياداتهم أو أثناء توجههم إلى مشافيهم، وفي حادثة أخرى للطبيب جورج مخول الذي كان متجهاً للمشفى الذي يعمل به، جاءه اتصال من أحد المرضى الذي كان قد عالجهم يخبره بأن أبناء المنطقة التي يعمل بها يخططون لقتله، فعاد أدارج منزله ليجمع أوراقه وعائلته متجهاً إلى ألمانيا خوفاً على حياته وحياة أطفاله التي باتت مهددة بالموت في كل دقيقة، وهذا ما دفع بالآخرين من الأطباء لكي يجدوا في السفر وسيلة للحفاظ على أرواحهم، إضافة إلى أن الكثير من الأطباء الذين كانوا يقطنون في أرياف المحافظات أو في المناطق الحدودية اضطروا لمغادرة بلادهم بعد تعرضهم للضغط مرات عدة من قبل المسلحين بعد أن رفضوا طلبات علاج المسلحين في عياداتهم أو حتى في المشافي الميدانية الخاصة بهم..
محاربة من دول الخارج لنا
ليس كل الأطباء الذين غادروا سورية خلال الأزمة استطاعوا البدء من جديد في بلد آخر، فالبعض منهم يعيش واقعاً سيئاً لا يتناسب ومكانته العلمية والمهنية، ومنهم من هاجر وندم وهو يسعى للعودة، ونستعرض لحالة رواها أحد الأطباء شاكياً من وضعه السيئ في البلد الذي هاجر إليه بعد أن كان يستقبل ما لا يقل عن ثلاثين مريضاً في عيادته في حمص، لكنه اضطر للسفر خارج البلاد مع ازدياد الأوضاع في المحافظة سوءاً وانخفاض حجم العمل في عيادته، وما إن وصل للسعودية حتى فوجئ بأن جنسيته السورية هي في الحقيقة باب للاستغلال المالي، ناهيك عن النظرة العدائية التي بدأت من الأطباء المصريين والليبيين، وفور معرفتهم بوجوده قاموا بمحاربته، وفعلاً لم يستطع العمل هناك وعاد إلى بلده للبحث عن فرصة جديدة.
أما الطبيب وائل الأسعد، فقد اختار الهجرة إلى مصر منذ بداية الأحداث في سورية معتمداً على تصريحات المسؤولين فيها باستقبال الكفاءات العلمية السورية في مصر، وكذلك شهاداته التي يحملها من جامعات مختلفة، ويختصر الطبيب قصته بقوله :” نجحت بمقابلة معاون وزير الصحة المصري الذي يعرفني جيداً في المؤتمرات العلمية، فرحّب بي ترحيباً شديداً كضيف سوري، ولكن عندما طلبت منه المساعدة بفتح عيادة في القاهرة، كان الرد بالرفض متذرعاً بعدم حاجتهم لعيادات وأطباء، بل الاكتفاء بتعييني في مشفى يقع في مكان بعيد جداً عن مكان إقامتي وبأجر ضئيل في الأسبوع.
إمكانيات محدودة
لم تختلف أرقام الأطباء الذين تقدموا بطلبات رسمية للحصول على وثائق نقابية للسفر خارج البلد بشكل نظامي منذ بداية الأزمة وحتى هذه السنة، فعددهم وحسب ما ذكره لنا الدكتور عبد القادر الحسن نقيب أطباء سورية لا يتجاوز 2000 طبيب ومنهم من عاد بعد أشهر من مغادرته، أما الذين خرجوا بشكل غير نظامي دون أخذ موافقة أو وثيقة، فتقديرهم صعب نتيجة الحاجة للتواصل بين الفروع وجميع الأطباء، وهذا أمر صعب في ظل الأزمة التي نعيشها، ومع ذلك يمكن القول: إن نسبتهم لا تتجاوز الـ 20% من كافة المحافظات، معظمهم خرج بعقود عمل لدول الخليج أو مصر أو ليبيا وموريتانيا، لأسباب متعددة كان أبرزها الخوف من القتل أو الخطف الذي تعرّض له الأطباء والمخترعون وذوو المراكز الهامة في البلد، خاصة بعد أن تم اغتيال وخطف عدد لا يستهان به من أطباء ماهرين وذوي مراكز هامة في المشافي، إضافة إلى تعرّض الكثيرين منهم للتهجير من منازلهم وعياداتهم ما اضطرهم للتفكير في الخروج إلى دول أخرى علّ وعسى يعوضون خسارتهم، وبالمقابل يمكننا القول: إن نسبة قليلة أيضاً غرّدت مع السرب إلى الخارج كنوع من الطمع والتقليد بعد أن أصبحت الهجرة موضة لبسها وذاق مرارتها الكثيرون أيضاً، وتحدّث الحسن لنا عن وضع الكثير من الأطباء الذين قدموا طلبات وشكاوى تعرضت عياداتهم أو مشافيهم للضرر خلال الأزمة، ولكن كنقابة لا تملك إمكانية مادية لمساعدة الأطباء الذين تضرروا في الأزمة، ذلك أن مالية النقابة تقوم على الرسوم النقابية، التي باتت قليلة جداً، فأكثر من 9 محافظات لم تعد تسدد الرسوم، إما بسبب صعوبة وصول الأطباء للفروع أو بسبب عمليات التخريب فيها، وهذا ما سبب نقصاً في الوارد المقدم لخزانة التقاعد، وتابع الحسن ليقول: قمنا كنقابة أطباء سورية بتقديم اقتراح لوزارة الصحة بأن تقوم الوزارة بإجراء عقود عمل سنوية للكفاءات الطبية المتضررة غير العاملة في الدولة، ولكن جاء الرد بالرفض محتجين بعدم التزام عدد كبير من الأطباء المتعاقدين مع الدولة بالدوام بشكل رسمي، فطلبت النقابة منهم إيقاف رواتب هؤلاء أو إنهاء التعاقد معهم وتعيين المتضررين بدلاً منهم وتأمين راتب لهم بدلاً من اضطرارهم للتفكير بالهجرة خارج سورية بحثاً عن العمل، أيضاً قوبل طلبنا بالرفض.
سورية في الصدارة
باب الهجرة والسفر إلى خارج سورية لم تفتحه الأزمة التي نعيشها اليوم، فقد كان موجوداً في السابق ولم يؤثر خروجهم خارج البلد على قطاع الصحة قبل الأزمة حتى يؤثر سفرهم على القطاع حالياً، وفق لقاء لنا بوزير الصحة الدكتور نزار يازجي في أحد الملتقيات الصحية “الاتحاد العام لنقابات العمال “، فسورية وحسب وزير الصحة كانت قد حققت نسبة 1.6 طبيب لكل 1000 نسمة قبل الأزمة، علماً أن النورما العالمية تتراوح بين 1.8 إلى 2 طبيب لكل 1000 نسمة، وهذا ما جعل الأطباء يفكرون بالسفر إلى الخارج لأن سورية كانت قد حققت قفزة نوعية في مجال الخدمة الطبية، وكانت قد اكتظت بالأطباء الاختصاصيين من ذوي الخبرة، ولم ينتج عن سفرهم للخارج سوى خلق روح المنافسة الإيجابية لدى من بقي في البلد، لذا يمكننا القول: إن القطاع الصحي كان مكتظاً بالأطباء قبل الأزمة على الرغم من سفر الآلاف منهم لدول الخارج، وبالتالي فإن الأزمة لم تؤثر على هذا القطاع من حيث نقص الكوادر الطبية وخاصة من يتشدق بالقول بأن الطبيب المختص في سورية بات عملة نادرة، إذ إن سورية كانت ولا تزال الدولة المصدّرة للأطباء المهرة من كافة الاختصاصات للدول الأخرى قبل وخلال الأزمة، وعن عودة الكثيرين من هؤلاء الأطباء خلال السنتين الأخيرتين إلى سورية بعد أن غادروها خلال الأزمة، أجاب يازجي بأن الوزارة تتخذ الإجراءات الروتينية لعودتهم في حال كانت المغادرة بشكل نظامي، فالبلد تحتضن جميع من يريد العطاء بها، وحول موضوع التعاقد مع الأطباء الذين تضررت عياداتهم ومخابرهم بيّن أن هذا الموضوع قائم، ولكن ضمن أولويات في مقدمتها أبناء وذوو الشهداء، إضافة إلى أن التعاقد حالياً سيتم حسب حاجة كل محافظة وكل مديرية صحة وكل مشفى ذلك لأن موارد الخزينة باتت محدودة.
ميس بركات