عندما تريد البحث عن الحضارة الآرامية في الجزيرة السورية فستجد الكثير من الكتب والمقالات بهذا الشأن ولكن لابد أن يستوقفك كتاب الممالك والقبائل الآرامية في منطقة الجزيرة للكاتب والصحفي خليل أقطيني الغني بالمعلومات عن تلك الحقبة.
وسلط الكاتب أقطيني في كتابه الضوء على الحضارة الآرامية في منطقة الجزيرة منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وما بعده، تلك الحضارة التي تجاوزت حدودها جميع مناطق الجزيرة بأقسامها الثلاثة الأعلى والأوسط والأسفل ووادي الفرات وبلاد ما بين النهرين وامتد إشعاعها الحضاري المتمثل باللغة الآرامية إلى أبعد من ذلك حتى وصلت واستعملت في بلاد فارس وآشور ومصر وغيرها من البلدان.
وتألف الكتاب من أحد عشر فصلاً ركز الكاتب في فصوله الخمسة الأولى على التعريف بالآراميين ومن أين جاؤوا وأين استقروا ووجودهم في الجزيرة السورية وأسماء ممالكهم وإماراتهم ومدنهم وقبائلهم ليسهب فيما تبقى من الفصول في الحديث عن الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعمرانية والدينية لهذه الممالك والمدن.
وتحدث أقطيني عن أهم الممالك الآرامية في الجزيرة ومنها مملكة بيت باخياني التي أقامها الآراميون في القرن الثاني عشر قبل الميلاد قرب منابع نهر الخابور في منطقة رأس العين حاليا وكانت عاصمة هذه المملكة غوزانا أو ما يطلق عليه حالياً تل حلف حيث بنى الملك كبارا بن قاديانوا قصوراً كبيرة فيها زينت بنقوش بارزة بديعة وتماثيل ولوحات جميلة وأحاط المدينة بأسوار حصينة ومن المرجح أن هذه المملكة سيطرت على جزء كبير من حوض الخابور الأعلى.
أما المملكة الثانية فهي بيت عديني وتعد من أهم الممالك الآرامية التي ظهرت في المنطقة الغربية من بلاد ما بين النهرين خلال القرن الحادي عشر قبل الميلاد وتقع بين نهر البليخ شرقاً وضفتي نهر الفرات الأوسط غربا وكانت عاصمتها مدينة تل بارسيب التي تسمى حاليا تل أحمر جنوب مدينة جرابلس بنحو 20 كم اضافة الى تنوع المكتشفات الأثرية التي تعود الى هذه المملكة وأهمها القصور والرسوم الجدارية ومعبد وصف بأنه أقدم معبد في العالم وقصر يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد في مقدمته تماثيل لسباع تحرس البوابة الشرقية للقصر.
وتطرق الكاتب إلى الحياة السياسية للآراميين في الجزيرة السورية مبينا أنهم وصلوا إلى المنطقة طلبا للمراعي والأراضي الخصبة وأخذوا بتنظيم أنفسهم اجتماعيا وسياسيا طيلة القرن الحادي عشر قبل الميلاد وما إن شارف هذا القرن على الانتهاء حتى أصبحوا من القوة والتنظيم بحيث تمكنوا من طرد الحاميات الآشورية من عدد من مدن المنطقة ما أدى إلى نشوب حروب طاحنة بين الآشوريين والآراميين نتج عنها سيطرة الآشوريين على الممالك الآرامية في الجزيرة السورية اسميا بينما بقي الحكام الآراميون القادة الحقيقيين لهذه الممالك لا يرتبطون مع الآشوريين بمعاهدات تكفل خضوعهم لهم ولكن بالمقابل يدفعون الجزية ويحترمون سلطة الملك الآشوري ونفوذه.
وفي الجانب الاقتصادي أوضح أقطيني أن اللقى الأثرية التي وجدت في الممالك الآرامية في الجزيرة تدل على وجود نظام ضريبي متطور نسبياً لهذه الممالك من خلال تسجيل واحتساب ما يملكه كل فرد من سكان القرية أو المدينة من مزارع وبساتين وأراض وممتلكات إلى جانب عدد أفراد أسرته ثم يتم تحديد من يتوجب عليه دفع الضرائب وقيمتها أو الإعفاء منها أما في الجانب التجاري فقد اشتهر الآراميون بالتجارة كشهرة الآشوريين بالحروب والفتوحات فقد احتكروا تجارة سورية الداخلية من خلال سيطرتهم على الطرق والمواصلات المؤدية إلى البلاد المتاخمة كما جابت قوافلهم التجارية بلدان الهلال الخصيب ووصلت حتى منابع الرافدين شمالاً وإفريقيا جنوباً.
وأضاف الكاتب أن الآراميون اشتهروا بصناعة التحف العاجية وصياغة الحلي الذهبية والفضية والنحاسية وصناعة الأسلحة والمركبات الحربية ونسيج الأقمشة الحريرية المزركشة كما ازدهرت الزراعة لديهم حيث أثبتت التحريات الأثرية وجود نوعين من الزراعة الأولى بعلية تقليدية والثانية مروية تطورت بعد إنشاء نظام ري الأراضي بواسطة الأقنية المائية والسواقي ما أدى إلى ازدهار زراعة الحبوب كالشعير والقمح يرافقها زراعة الأشجار المثمرة ولاسيما الكرمة والنخيل.
وأشار أقطيني إلى أن الفن المعماري في مدينة جوزان تل حلف الواقعة في وادي نهر الخابور احتل مكان الصدارة بين مراكز الفن الآرامي ليس في الجزيرة السورية فحسب وإنما في كل المناطق الأخرى التي نشأت فيها ممالك وإمارات آرامية ففي هذا المركز ظهر وترعرع الفن الآرامي قبل نشوئه وترعرعه في بلاد الشام حيث كشفت البحوث الأثرية عن مجموعة كبيرة من المنحوتات كان معظمها في مكانه الأصلي ما ساعد في التعرف على وظيفتها ودراستها وفق مكان وجودها.
وأكد الكاتب اهتمام الملوك الآراميين في الجزيرة السورية بتحصينات المدن وبناء القصور الضخمة والواجهات الكبيرة مثل قصر الملك كبارا بن خاديانو في تل حلف والذي يقول عنه مفتخراً "لقد صنعت شيئاً لم يستطع أسلافي صنع مثله" ويقصد تماثيل واجهة القصر التي نقلت إلى متحف برلين ودمرت خلال الحرب العالمية الثانية كما درج الآراميون على تزيين قواعد جدرانهم من الخارج بلوحات منقوشة واهتموا كثيرا بفن النحت والنصب ذات المواضيع الأدبية القصصية المتكاملة كنصب تل العشارة وغيره من النقوش والوثائق التي توضح دورهم المهم على انهم أهم الشعوب القديمة في مرحلة الألف الأول قبل الميلاد في المنطقة.
يشار الى ان أقطيني كاتب وباحث إلى جانب عمله الصحفي، فقد صدر له عدة كتب منها مدائن والخابور في الحسكة ودير الزور ومشروع الشرق الأوسط الجديد لماذا لبنان أولاً والممالك والقبائل الآرامية في الجزيرة السورية وغيرها. وهو عضو في اتحاد الصحفيين السوريين واتحاد الصحفيين العرب واتحاد الكتاب العرب واتحاد كتاب الانترنت العرب ويساهم في إعداد وتقديم عدد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية ويكتب في عدد من الصحف والمجلات العربية، ومحاضر في المراكز الثقافية .
هناء صقور
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي