الإبداع ظاهرة قديمة قدم الإنسان نفسه، فقد تمكن الإنسان البدائي في العصور القديمة من ابتكار الأدوات والأسلحة التي يستخدمها لإنتاج طعامه أو الدفاع عن نفسه، وواصل البحث في كل ما يحقق له حياة هانئة مستقرة، وأخذ يبدع وينتج وفق حاجاته ، وفقاً للمثل القائل: (الحاجة أم الاختراع)، وهكذا تتطور البشرية بمقدار ماتنتج وتبتكر في جميع المجالات؛ سواءً فكرية أو مادية؛ ويعود ذلك إلى تسخير الإنسان لقدراته وإمكاناته حتى أصبح مصدراً للتغيير والتطوير. وظاهرة الإبداع ليست مقصورة على مجال معين دون آخر، وليست أيضاً خاصة بمجتمع دون غيره، فهناك إبداع في مجالات فكرية واقتصادية وتقنية وإدارية، وليس كل البشر مبدعين، فهناك أناس تميزوا في كل مجتمع وأسهموا في تطور البشرية بإبداعاتهم وابتكاراتهم .
ونحن في أمس الحاجة إلى الإبداع الإداري لحل مشكلات الإدارة المتزايدة في النواحي الإنتاجية والتنظيمية والإنسانية، ولمتابعة التطورات ومواكبة المتغيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي يمر بها عالم اليوم. فالمنظمات الحكومية المعاصرة تعيش في ظروف متغيرة، إضافةً إلى تزايد وعي واحتياجات الرأي العام ومطالبته بالمزيد من الخدمات وفق أساليب مميزة، وهذا يفرض على تلك المنظمات الاستجابة الديناميكية وتبني النظرة المتجددة للأشياء وللمشاكل، وتبني أفكار وحلول مبتكرة تلائم الموقف. وفي نفس الوقت، ينبغي على المنظمات الحكومية تشجيع العاملين على إبداء آرائهم ومقترحاتهم للتطوير والتحديث عن طريق تصميم النظم والأساليب الملائمة لنمو الإبداع لدى العنصر البشري الذي يعد أهم العناصر الإنتاجية والمحرك الرئيس لجميع العناصر الأخرى .
إن ما تواجهه الإدارة في وقتنا الحاضر من مشكلات إنتاجية وتنظيمية وإنسانية، إنما يعود جزء منه إلى عدم إتاحة الفرصة لأفراد التنظيم للمساهمة بما لديهم من أفكار جديدة في حل تلك المشكلات، ولم تعد مهمة المدير اليوم تتمثل في انتظار المشكلات ثم التدخل لحلها بشكل جزئي أو شامل، ولكن الأمر قد تعدَّى ذلك بكثير، فأصبح من أهم واجبات المدير الفعال أن يأخذ زمام المبادرة ويتوقع ما يمكن أن يحدث، ويفكر ويبدع في كيفية تلافي المشكلات، كما يجب عليه تهيئة الأجواء المناسبة للعاملين لتفجير مواهبهم وإبداعاتهم وتحفيزهم للمساهمة بما لديهم من أفكار في حل المشكلات، وذلك للارتقاء بمستوى الأداء والإنتاجية. ويؤكد المفكر الإنكليزي " بيتر دراكر" على ذلك بقوله: "إن على المديرين أن يتعلموا إدارة المؤسسات المبدعة".
وحتى يمكن أن نتبنى الإبداع الإداري، يجب أن نهيئ له الأجواء الملائمة لنموه وظهوره، ونتلمس العوائق التي تحول دون انطلاقة والعمل على معالجتها. وانعدام الحوافز بأنواعها المختلفة من العوامل التي تسهم في إعاقة الإبداع، حيث يؤكد كثير من خبراء الإدارة على دور الحوافز الوظيفية بأنواعها المختلفة في الأداء، فتلك الحوافز تلامس حاجات إنسانية داخلية لا يمكن تجاهلها، فهي تعمل كمحرك للسلوك وتدفع للإبداع والابتكار . وتتوقف كفاية الأفراد وإنتاجيتهم على عنصرين أساسين هما: المقدرة على العمل، والرغبة في العمل؛ وتتمثل المقدرة في: مهارات الفرد، وقدراته التي يكتسبها بالتعليم والتدريب والخبرة، بالإضافة إلى الاستعداد، والقدرات الشخصية؛ أما الرغبة في العمل فتمثلها الحوافز التي تدفع سلوكه في الاتجاه الذي يحقق أهداف المنظمة. لذا ينبغي تحديد أي العاملين هو المؤثر الفعال: المقدرة أم الرغبة ، ولهذا فإن تشجيع المواهب لدى الموظفين يجب أن يكون هدفاً للإدارة المبدعة، والمؤسسات الحكومية في حاجة للإبداع الإداري لتعظيم كفاءتها الإنتاجية، وحل مشكلاتها المتعددة، وتلبية احتياجات الرأي العام المتزايدة. كذلك الحاجة قائمة في مجتمعنا السعودي إلى تطبيق النظم والأساليب الإدارية المبتكرة والنابعة من بيئتنا والتي تناسب متطلباتنا دون التقليدالأعمى الذي لا يراعي خصوصية المجتمع .
وبناءً عليه، فإن الحاجة ملحة لتحفيز الموظفين واستثمار قدرات الموهوبين وتبني نظم إدارية تسهم في خلق جو إيجابي لنمو الإبداع الإداري. وما يلاحظ في بيئتنا العربية هو توافر أجواء غير إيجابية لنمو الإبداع، منها: هيمنة القانون، ورفع شعار الحرص على المألوف،ومقاومة الإبداع والتغيير، وميل الرؤساء إلى عدم إعطاء مرؤوسيهم مسؤوليات للقيام بأعمال جديدة.
وتشمل ظاهرة الإبداع مختلف المجالات، وقد تناولها الباحثون منذ وقت قديم؛ عند البحث في طريق التفكير الابتكاري وأسسه وأساليبه، ومن أوائل الدراسات المنهجية في الإبداع، دراسة قام بها " جالتون " عام 1883 . وتبلورت دراسة الإبداع في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي في مجال علم النفس، ثم اهتم علم الإدارة العامة بالإبداع من خلال السلوك الإداري، فتطرق للإبداع، وتبلور هذا الاتجاه في الدول الغربية وفي مؤسساتها بشكل واضح علمياً وعملياً .
ويجب على المؤسسات في الوقت الحالي أن تحرص على تنمية الإبداع واستمرار تطويره، لاستغلال الموارد المتاحة إلى أقصى درجة ممكنة، وإعداد الكفاءات بما يُمكِّن التنظيم من البقاء والتطوير، إذ إن طبيعة العصر الحاضر تفرض التغيير، فكل يوم نرى من حولنا مظاهر البحث والفحص والدراسة والتنبؤ بصورة مستمرة، وبالتالي زادت أهمية الإبداع الإداري لمسايرة ركب التطور والتجديد في جميع مجالاته. وأصبحت النظرة التقليدية والأساليب القديمة في إدارة المنظمات غير ملائمة لهذا العصر الذي يلاحق الجديد، إذ إن رياح التغيير والتطوير مستمرة ولايمكن أن تقف .
ولقد أولت الدول المتقدمة الإبداع الإداري عناية خاصة للنهوض بمجتمعاتها حتى وصلت إلى تقدم علمي وتنظيمي وتقني كبير، فالحاجة ملحة في مؤسساتنا لإعطاء هذا الموضوع الأهمية الكافية وتنميته لدى العاملين بشتى الأساليب، ومن أهمها على الإطلاق: اتباع سياسة تحفيز ملائمة تنمي الفكر وتشجع الموهوبين وتستثمر طاقاتهم .
د . نزار عوني