الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال
أحدث الأخبار

جريدة الاتحاد

الصفحة السابقة »

بدر شاكر السياب الإنسان والشاعر

2019-02-04 11:03:27

مازال فينا الجياع والعراة والعبيد، ومازال اليتامى والأرامل والثكالى، ومازلنا نقتل الناطور على البيدر لنستبدله بسارق.

اعلم أنك الإنسان الذي لا يحتاج الألم دليلا ليهتدي إليه، واعلم أنك الشاعر الذي لم تغب عنه رؤى الجمال، واعلم أن الألم كان تصاعدياً مع سنيك القصيرات، وكان الإبداع معه تصاعدياً أيضاً، فلا عجب حينما كانت النهاية قريبة منك، فمن يمشي سريعا يصل أسرع، اعلم أن الثمان وثلاثين سنة كانت كافية لتصل بها إلى أعلى مرحلة من مراحل السقم والغربة والحرمان، واعلم أن الموت لم يكن إلا رائحة عظيمة مما كانت تكابد وتجد، وكفيلة أيضا أن تصل بها إلى عرش العبقرية العشرية، اعلم بانك كنت إنساناً بشاعر وشاعر بإنسان، ولم تكن لتكون بأحدهما دون الآخر، ولم نستطع فهمك شاعراً ما لم نغص في اعماقك إنساناً، ويكفيك فخراً أن أقرانك من العشراء –ممن عاصروك وعاشوا بعدك بنصف قرن وأكثر- لم يتركوا عشر الأثر الذي تركه فكرك وشاعريتك حين مت وأنت ابن الفتوة والشباب، فذلك هو سر العبقرية حين يحملها الإنسان، وسر الإنسانية حين يحملها العبقري، لكن أصدق القول بأنني لم أكن أدرك ما أنني سأحسدك على ما آل إليه حالك ولم يدر في خلدي أن تتحول في مخيلتي إلى إنسان محظوظ بعد كل ما رأيت من عذابات الحياة.

لا أكتمك، لقد كنت أبكي كلما قرات مرئية الشاعر سعيد يوسف لك وهو يردد ويقول:

جيكور توقد في السماء

الرطب فانوساً ولا تلقى ضياءه

مات اليتيم وخلّف امرأة وأيتاماً وراءه

يا رحمة الله التي وسعت شقاءه

يا أم من لا أم تغمض جفنه كوني رداءه

ولتمسحي الجسد المعذب راحة، والحق قطره

ولتمسحي يا السدر جبهته، وبالأعشاب صدره

هو طفلك المصلوب فوق سريره عاماً فعاما

فتفتيح الطعنان مشلولاً لا مضاماً، لكني ادرك اليوم أن حياتك كانت فخراً وموتك كان فخراً أيضاً، فمازال الشعر يعدك في وله وحزن واندهاش يعيش حالة الفقد ويتقبل فيك العزاء، فقد كنت فرقاناً بين الحزن النبيل ونقطة اتصال عظيمة للشعر بالإنسانية.

لقد أثبت ان الحياة بلا أم ظل ناقص، وأنها بلا وطن شمس قصيرة، اعلم أنك فتحت مغاليق الخيالات لأجل الحزن الذي كان يعتريك، وأبواب المجاز لأجل الإحاطة بالألم الذي كنت تتقلب عليه، فانفتحت بذلك كل أبواب الجمال والرائد، ثم أمام الشعراء من بعدك، فكنت فيهم المبتكر، وعشت، ولاتزل فيهم الحادي والرائد، لكن الحال بعدك هو يا بدر، فمازال الشعر يعيش الجوع وينشر الغلال فيه موسم الحصاد لتشيع القربان والحداد ومازال الناس بانتظار من بعد انتظار من بعد انتظار، وكأن الزمان قد تلاشي فلم يبق إلا الانتظار.

مازالت جيكور توقد فوانيس بلا ضياء و"بويب" متسربلاً ببقايا وشل للدموع، ومازالت أشباح "منزل الأفنان" تعيش اليتم بعدك وكما تزل شجرة السدر بحاجة لمن يهدف ظفائرها اليابسة، مازال فينا الضياع والخداع والظلام والسقام، ومازال أحدنا يردد في صحوة.

يا نوم بين جوانحي أمل

لم (ندر) قبلك أنه امل

مازلنا واقفين خلف سور من حجار، لا باب فيه لكي (ندق) ولا نوافذ في الجدار ومازلنا نترك انتظاراً واصطباراً ومازلنا نجهل ما لا نريد وما نريد، مازال فينا الجياع والعراة والعبيد ومازال اليتامى والأرامل والثكالى ومازلنا نقتل الناطور على البيدر لنستبدله بسارق ونخلق بناته ألف مومس عمياء ثم نتركها بال فانوس ونبيع الزيت لمن يدفع أكثر، مازالت المزاريب تنشج بعدك –يا بدر- ومازال البكاء هو العزاء الأقرب للنساء من كل صديق وأنيس، لم تبق وراءك غاية ولا سحر، ولا شعر فنان ولا قمر، وقد تيبست أخشاب الشناشيل وأمست محض ركام واقف، وباتت "ابنة الشلبي" متسولة على رصيف المارة وباب شباك "وفيقة" مشرعاً تتداول دفتيه الحريم، غادرنا بعدك –يا بدر- الحمد والعطاء ولم يبق غير الأمل والرزايا والبلاء.

لم يبق لي بعد ما تقدم إلا أن أزف لك خبراً سيسعدك كثيراً، فحين قلت:

إن مت يا وطني فقير في مقابرك

الكئية أقصى مناي

صرت به الأوفر حظاً بين آلاف من المشردين فقد فزت من وطنك العربي بقبر مجاني بين من تحب وغيرك الآن يدفع الآلاف من الدولارات ليشتري قبراً في الغربة.

د.رحيم هادي الشمخي

أكاديمي وكاتب عراقي


مشاركة :
طباعة