الاتحاد العام لنقابات العمال
الاتحاد العام لنقابات العمال
أحدث الأخبار

الأخبار » تحقيقات

الصفحة السابقة »

هزالة مستويات الدخل تنذر بتداعيات سلبية وأمراض اجتماعية

2018-07-08 07:30:46

بعد أن فرقتهما الأيام لأكثر من عشرين عاماً، جلس الصديقان يتسامران وقد التقيا للتو، أسئلة كثيرة تزاحمت في ذلك اللقاء عن العمل والأبناء والسكن والذكريات الدفينة التي جمعتهما قبل عقدين من الزمان..، كانا في شوق ليعرف كل منهماعن الآخر ماذا فعلت به الحياة ودروبها الطويلة والقاسية بعد تلك السنوات..
الأول كان موظفاً حكومياً من الفئة الأولى، وهو حالياً ينهي ما تبقى له من سنين قليلة في الوظيفة ربما عامين أو أكثر قليلاً، والثاني انشغل بأعمال تجارية مختلفة في بداية مشواره العملي، حتى استقر بالعمل بتجارة الألبسة الجاهزة وطور أداءه ونجح في تحقيق مكاسب جيدة..
وجاء السؤال مباشراً من التاجر إلى صديقه الموظف: إذاً كيف تتدبر أمورك وكيف تؤمن معيشة أبنائك وبناتك، وهل لديك عمل آخر غير الوظيفة...؟؟
حال محدودي الدخل
هذه الأقصوصة التي تركنا نهايتها مفتوحة ونعرف أن الجميع لديه الإجابة عليها، هي تنطبق على حال كل أصحاب الدخل المحدود وخاصة في هذه الظروف القاسية التي تمر بها البلاد والتي ترافقت مع التداعيات السلبية للحرب العدوانية على سورية، والتحولات العميقة التي حدثت على مختلف الأصعدة وتركت أخاديد عميقة ومؤلمة على حياة مختلف السوريين الذين أصابهم ما أصابهم من ويلات ومتاعب وصعوبات..
حياة مضنية
فمستويات الدخل المتدنية والتي لم تعد تكفي لسد احتياجات الأسرة لبضعة أيام من الشهر، مقابل التوحش غير المسبوق بأسعار السلع والخدمات المختلفة، جعل حياة المواطنين موحشة ومضنية وأقسى مما كانوا يتوقعون..، فالآن أدركوا حقيقة المثل الذي لطالما سمعوا به من الأجداد عندما كانوا يقولون " خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود "، وذلك القول المأثور الذي يتحدث عن النعم وزوالها: " اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم ".. هي كلمات لم يدرك السوريون معناها إلا في هذه الأيام السوداء الحالكة التي خيمت بظلالها القاتمة على كل تفاصيل حياتهم فحولتها إلى حياة باردة قاتمة الملامح، صعبة ووعرة المسالك والدروب..
فالمعاناة التي يعيشها أصحاب الدخل المحدود وصلت إلى حدود تخطت فيها كل عتبات التحمل والصبر والصمود، وخرجت عن حدود المنطق والمعقول، في ضوء ما يواجهه العامل والموظف من قسوة الأسواق وتوحشها، والتي لم تجد من يردعها أو حتى يخفف من وطأتها، فالأسعار في واد، والرواتب والأجور في واد آخر..
المعادلة المستحيلة
هي معادلة باتت مستحيلة الحل ولا يمكن لعاقل أن يصدق أن إنسان يعيش بدخل قد يصل إلى 50 ألف ليرة بالشهر، في وقت تحتاج فيه الأسرة المؤلفة من خمسة أشخاص وأب وأم إلى 3000 ليرة ثمن خبز، و8000 ليرة ثمن لبن، 18000 ليرة ثمن خضار لزوم الغداء فقط (مع افتراض أن أبسط طبخة يومية تكلف فقط 600 ليرة)، إلى جانب فواتير الماء والكهرباء والهاتف والخلوي، وأجور النقل، واسطوانة غاز واحدة في الشهر، ونصف كيلو شاي و10 كغ سكر..فقط.
هذه الاحتياجات فقط تحتاج إلى أكثر من 50 ألف ليرة شهرياً، وهنا سقط من حساباتنا كل ما يتعلق بالجانب الصحي ونفقات العلاج في حال أصيب أحد أفراد الأسرة بوعكة صحية طارئة ولا نقول حالة مرضية صعبة، أو حادث طارئ لا سمح الله، هذا إلى جانب أننا أسقطنا من حساباتنا نفقات اللباس والكساء الأحذية ومستلزمات المدارس والجامعات ومصروف الأبناء وغيرها الكثير..طبعاً هذا إلى جانب أننا افترضنا أن هذه الأسرة التي نتحدث عنها تمتلك منزلاً ولا تدفع أجور سكن، ولا تأكل أي صنف من أصناف الفاكهة لا الصيفية ولا الشتوية...!!!
فكيف هي الحال إذاً في حال كان صاحب الدخل المحدود مضطر لدفع أجور سكن لكونه لا يمتلك منزلاً، وكيف سيتدرب أموره لتأمين نفقات علاج أحد أفراد عائلته فيما لو أصيب بمرض أو عارض صحي..؟؟
مقاربة لحجم المعاناة
هذه المقاربة البسيطة لواقع حال أصحاب الدخل المحدود تظهر حجم الفجوة الهائلة بين مستويات الأسعار التي تجاوزت كل الحدود، وبين هزالة الأجور والرواتب التي لم تعد تكفي لسد الرمق فكيف بها إذاً ستكفي لتغطية احتياجات الأسرة لشهر كامل..؟؟
ولعل المفارقة التي تزيد في الطنبور نغماً، ذلك التفاوت الصارخ الذي يشهده المجتمع في مستويات المعيشة بين الشريحة الأوسع التي تتمثل بأصحاب الدخل المحدود وشريحة العمال والموظفين، وبين أصحاب الأعمال والتجار وغيرهم الذين ينعمون بترف غير مسبوق حتى في أوقات السلم، ما يشي بحالة استغلال واضحة لظروف الحرب العدوانية على سورية من قبل البعض، واستثمارها في تكديس ثروات قذرة على حساب معاناة المواطنين وحرمان أطفالهم من أبسط حقوقهم في تأمين لقمة العيش والكساء والدواء والتعليم و...
الجميع يدرك
الغريب في الأمر أن المعنيين في الحكومة يدركون تماماً فداحة الواقع الحالي الذي تعيشه الشريحة العظمى من المواطنين جراء ضعف الدخول وهزالتها، بدليل إطلاق التصريحات تلو التصريحات عن سعي الحكومة لتحسين الواقع المعيشي وتوفير ظروف أفضل للتخفيف من وطأة هذا التفاوت الكبير ما بين الدخل والأسعار، إلا أن الغرابة هنا في عدم القيام بأية خطوة في هذا الاتجاه، ونعني هنا العمل على زيادة الرواتب والأجور للعمال والموظفين، والاكتفاء بالحديث عن إجراءات وبرامج عمل يتوقع منها أن تساهم في تخفيف حدة المعاناة التي يعيشها المواطنون.. إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث..
حتى الدراسات الاقتصادية التي أجريت من عدة جهات تؤكد ضرورة أن يحصل العامل والموظف على زيادة مجزية في الرواتب، لتصحيح الخلل المعيشي القائم في حياة معظم السوريين، على اعتبار أن إجراءات تخفيض الأسعار والتوجه نحو الدفع بعجلة الإنتاج قدماً، تحتاج إلى مزيد من الوقت ليلمس المواطن آثارها على حياته، فيما واقع الحال يتطلب حلولا مباشرة وسريعة لإعادة التوازن إلى حياة المواطنين وذلك بزيادة الرواتب والأجور بنسبة لا تقل عن 100%، وإلا فإن أية زيادة بنسبة أقل من ذلك، لن يكون لها ذلك التأثير الذي من شأنه أن ينقذ العمال والموظفين من مستنقع الفقر الذي يغرقون فيه..!!!
بالقلم والورقة
فبالنظر إلى حجم تكاليف معيشة الأسرة المتوسطة ولكي تعيش بكرامة وتنفق على كامل احتياجاتها الصحية والغذائية والتعليمية وتفي بالتزاماتها المادية تجاه الجهات الخدمية (كهرباء، ماء، هاتف،) فإنها تحتاج إلى دخل لا يقل عن 150 ألف ليرة سورية وسطياً، وهذا الرقم مرشح للزيادة ليتجاوز حدود 250 ألف ليرة..
الفائدة للجميع
طبعاً هذه الزيادة المطلوبة على الراتب، وإن كان سيستفيد منها بشكل مباشر الموظف وعائلته، إلا أنها بالتأكيد ستنعكس زيادة في النشاط الاقتصادي وتسريع دورة رأس المال في الأسواق، على فرض ثبات الأسعار عند حدودها الحالية، وبالتالي هذا سيوفر ظروف حياة أفضل لجميع الفعاليات الاجتماعية بمن فيهم الموظف والتاجر وسائق التكسي والعامل العادي والصناعي والمستورد، وغيرهم..
فالمتابع لحركة الأسواق حالياً، يمكنه أن يلمس تثاقل بالحركة التجارية، قياساً بما يمكن أن يكون الحال عليه فيما لو كانت الشريحة الأوسع من المواطنين تتمتع بدخل شهري أفضل مما هي عليه الحال الآن..
العيش بكرامة
إن أكثر ما يطلبه المواطن أن تساهم الحكومة بتأمين ظروف معيشة أفضل تحفظ فيها كرامته وتساعده في تنشئة الأجيال تنشئة سليمة ومعافاة من الأمراض البدنية والاجتماعية، ذلك أن بقاء الحال على ما هو عليه الآن سيترتب عليه نتائج سلبية كثيرة صحية ونفسية واجتماعية وتعليمية، حيث بدأنا نلمس تراجعاً في الحالة الصحية لدى العديد من المواطنين لعدم القدرة على الحصول على الغذاء المناسب والضروري لهم ولأبنائهم، وتالياً عجزهم عن الحصول على العلاج والدواء اللازمين،
إلى جانب التراجع الواضح في المستوى التعليمي بسبب عجز العائلات عن تحمل نفقات تعليم الأبناء في المدارس والجامعات، هذا إلى جانب الأمراض الاجتماعية التي ستنتشر بالتأكيد وستتسبب بزيادة معدلات الجريمة والسرقة و... وغيرها من الأمراض التي تصيب المجتمعات وتؤدي إلى فسادها وتهديم منظومة القيم والأخلاق فيها...
تهميش وتبديد للطاقات
إن حالة الاعتلال التي أصابت مستويات الدخل، ساهمت وستساهم، في حال بقيت على نفس المستوى، في تهميش الشريحة الأوسع من المواطنين، وتبديد طاقاتها وقدراتها الضرورية للمساهمة في بناء المجتمع وتجنيبه المخاطر والأمراض التي قد تصيبه، وتحويل كل هذه الطاقات والقدرات البشرية إلى طاقات غير منتجة وهدامة..
ولا بد من الانتباه إلى خطورة ما قد يواجهه المجتمع، وإعادة النظر في مسألة التردد التي تبديها الحكومة في زيادة رواتب الموظفين، والإسراع بإنجاز هذه الخطوة بشكل مناسب، وعدم التأجيل لأكثر من ذلك حتى لا نستفيق على واقع مرير قد لا تفيد معه أي من الإجراءات العلاجية والإسعافية التي يمكن تلافيها فيما لو تم التعامل بجدية مع ملف الأجور والرواتب والحالة الهزيلة التي وصل إليها..وذلك انطلاقاً من القول بأن: " درهم وقاية خير من قنطار علاج "..!!
محمود ديبو

المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي


مشاركة :
طباعة

أُترك تعليقك