الإمبريالية التقليدية.. والغزو في أعالي البحار
2018-02-24 22:41:22
الحكام الجدد للعالم هم نفس الحكام القدامى، لكن بوجوه جديدة، اليوم لم تعد الإمبريالية التقليدية متمثلة بالغزو في أعالي البحار وإخضاع الشعوب عسكرياً هي النمط المتبع، إذ عوضاً عن فجاجتها تلك هناك إمبريالية جديدة غير مباشرة ناعمة أحياناً وخشنة أحياناً أخرى تستخدم التكنولوجيا والشركات العابرة للقوميات والقارات وشعارات معلومة.
إن الشكل الحالي لعلاقات القوة في العالم شكل إمبريالي صرف يحابي الأقوياء على حساب الضعفاء ويزيد من الفجوات الموجودة أصلاً في عالم اليوم ولا يردمه، وما حدث في العراق وسورية وليبيا واليمن وما تبقى من ذيول هذه المؤامرة الكبرى على الأمة العربية مازالت تنفذ بموافقة وتخطيط من العدو الصهيوني على المنطقة العربية.
يقول النائب الأمريكي السابق (ديك تشيني): إن الحرب ضد الإرهاب التي أطلقتها واشنطن بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول قد تستمر لأكثر من خمسين سنة، وهذا ما يؤكد أن الذريعة التي تريدها الولايات المتحدة الأمريكية للاستمرار فيما تسميه حرباَ ضد الإرهاب سوف تمتد، وأنه خلال العقود التالية سوف تتحول ثقافة الاستعداء والخوف إلى مرحلة إلقاء مسؤولية كل ما يحدث في الداخل على الأعداء الخارجيين.
لكن ما هو أعظم من ذلك هو ما يقبع وراءه من رغبة أمريكية جارفة وواعية في آن واحد إزاء الحفاظ على الوضع القائم لتوزيع القوى والنفوذ في العالم وتحت مسميات جديدة للعولمة، ونحن كما نعرف أن نظرية الحفاظ على الوضع القائم في أمريكا تتضمن تعزيز رؤية ونظرة (جورج كينان) أحد أهم العقول الاستراتيجية الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي الذي أطلق مقولة شهيرة تقول: [إننا، أي الأمريكيين، نملك أكثر من 50% من ثروات العالم بينما لا يزيد عددنا على ما نسبته 6.2% من سكان العالم آنذاك، إن هدفنا الاستراتيجي يجب أن يكون في المحافظة على هذه الفجوة]، وانطلاقاً من هذه الرؤية فإن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الحالية فتحت المقولات البراقة عن عصر الاتصالات والقرية المعولمة والهواتف النقالة، وتخفيض الحدود الجمركية وكل ما ينسب إلى الحقبة المعولمة الجديدة وهي عولمة الفقر، وهذه العولمة التي تكرسها سيطرة الرباعي الدولي (أمريكا وبريطانيا وكندا واليابان) على منظمة التجارة العالمية كما يكرسها التحالف المالي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بما يحافظ على الاستنزاف اليومي لدول العالم الثالث عن طريق تسديد الديون الهائلة للغرب بمعدل مئة مليون دولار يومياً، وهذا الاستنزاف لا يحافظ على الفجوة الهائلة بين الشمال المترف والجنوب المسحوق، بل يزيد منها على هوامشها صوراً مؤلمة مثل موت أكثر من ستة آلاف طفل يومياً في العالم الفقير جراء الإسهال المتسبب عن غياب الماء النظيف وعدم وجود الرعاية الصحية والجوع.
ولو رجعنا إلى دور أمريكا السابق في الستينيات والسبعينيات فهي أوجدت المثال الأندونيسي أي (التلميذ النموذجي) الذي استخدمته أمريكا من أجل نظام السوق الحر على أندونيسيا ودعم رئيسها السابق (سوهارتو) والتغاضي عن كل سياسته بسبب تحالفه الوثيق مع الغرب أو بحسب كلمات (سوهارتو) لانصياعه التلميذي المدهش لما يطلبه منه أساتذته، وقد تم لقاء في جاكرتا عام 1967 بين وفود غربية وأركان النظام الأندونيسي، تم فيه ترتيب أوضاع الاقتصاد قطاعاً بشكل يربط عجلة ذلك الاقتصاد بالاقتصاد الغربي ولخدمته ومن دون أدنى شك بأهمية لمصالح عشرات الملايين من الشعب هناك، أما خلال هذا الاجتماع فقد تم توزيع المجتمعين إلى غرف أربع، واحدة للمناهج وثانية للخدمات وثالثة للبنوك ورابعة لبقية القطاعات، وكيف حافظ الغرب على الإبقاء على سياسة التغاضي عن سوهارتو، رغم ارتكابه مجازر بحق الشعب الأندونيسي، سقط ضحيتها أكثر من مليون إنسان بريء.
أما ما جرى في أفغانستان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين لهو تدمير لشعب هذا البلد رغم فقره، فالميزانية الأفغانية تبلغ 83 مليون دولار وهي أقل من عشر كلفة طائرة بي 52 المستخدمة لقصف قرى وأماكن نائية خلال شهر من الحرب التي سقط خلالها مئات القتلى والجرحى، وهناك عمل آليات السيطرة التي بواسطتها تتمكن الدول الكبرى من توفير الأجواء الملائمة لشركاتها الكبرى لجمع الأرباح وتعظيمها (بواسطة اليد الخفية للاقتصاد) والقبضة الحديدية للجيوش لضمان تلك الأجواء، كما أن القوات الأمريكية المرعوبة من خوض أي حرب برية عمدت إلى قصف قرى وتجمعات صغيرة جداً لا يمكن أن توضع على أي خارطة بسبب صغرها.
وفي كل هذا فإن الإعلام الأمريكي والغربي الذي يتبنى وجهة النظر الرسمية يقوم هو الآخر بدور مهم حيث يمهد ويبرر كل ما تقوم به واشنطن بعد أحداث أيلول ضارباً بعرض الحائط كل ما يتعلق بالمهنية وادعاءات الموضوعية، وسوى ذلك مما دأب الإعلام الغربي على التغني به، الآلاف الستة من الأطفال العراقيين الذين يموتون شهرياً هم ضعف عدد الضحايا الذين قُتلوا في تفجيرات نيويورك، لكن الإعلام الغربي والأمريكي يعتبر قتلى نيويورك بشراً بينما الأطفال العراقيون ليسوا بشراً، وأن قتل النساء والأطفال والرجال في سورية من قبل الإرهابيين المصنعين في أمريكا والسعودية وتركيا مباح ورخيص لدى صناع القرار الأمريكان، وما يحدث في ليبيا من حرق الزرع والضرع والحجر أمر داخلي والحراب بين الاخوة مجرد نزهة، أما اليمن فقد دمرته طائرات التحالف الأمريكي- السعودي.
لقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بحصار العراق 12 عاماً، ورغم أن الحقائق والأرقام تتحدث عن نفسها فإنها غير منشورة ومسلط عليها الضوء بما فيه الكفاية، فبحسب تقارير اليونسيف هناك يموت ستة آلاف طفل عراقي كل شهر بسبب الحصار الذي قامت به أمريكا وحلفاؤها ضد العراق قبل شنها الحرب عليه عام 2003، وكان هدف أمريكا وحلفائها الغربيين من وراء الحصار هو إيجاد نظام حليف لها يسهل لها أهدافها في المنطقة ويضمن ديمومة تصدير النفط بالأسعار المطلوبة ووفق ما تراه عواصم الغرب، وفي نفس الوقت القضاء على أي مصادر تهديد لـ«إسرائيل» حتى لو كانت لفظية.
إن سياسة التمييز العنصري التي اتبعتها أمريكا ليس ضد الشعوب العربية بل ضد شعوبها، وهذا ما حصل للهنود الحمر شعب أمريكا الأصيل قبل اكتشاف الجزر الأمريكية، وذلك لتسهيل مهمة حياة المهاجرين القادمين من خارج القارة، كما تعرض الشعب الاسترالي للإبادة الجماعية والتمييز العنصري من قبل حكامها المرتبطين بالعنصرية الأمريكية فقد تعرض شعب (الأيوريجينال) في أستراليا إلى القتل والتشريد والتجويع وهو الشعب الأسترالي الأصيل ذو التاريخ القديم صاحب الحضارة الزاهرة، هذا الشعب (الأيوريجينال) يناظر الآن ما يقع في أكثر من مكان في العالم عند الشعوب الأصيلة التي لاتزال تقاوم المحتلين أو القوى التي تريد أن تستأصلها، ويرسم صورة متناقضة لأستراليا التي تعتبر من أكثر بلدان العالم المتقدم حرية وريادة في العديد من المحاولات الخاصة بحقوق الإنسان، لكنها في الوقت نفسه تحتوي على صفحات لاتزال تنطق بالعنصرية البغيضة.
وأخيراً فإن الحكام الجدد للعالم اعتمدوا جانب الإمبريالية الجديدة الناعمة والخشنة للتآمر على شعوب العالم، بشعارات العولمة والشرق أوسطية، بحيث أصبح المواطن الغربي الذي ينام على وهم الأفضلية والتفوق القيمي والأوهام التي تصنع له إزاء نزعة الغرب الإنسانية نحو تصدير وتعزيز قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في العالم، هناك جانب آخر للغرب موجود في الشوارع الخلفية لآلام العالم الثالث، لا يراه الفرد الغربي العادي الذي يلقن دروس الأفضلية والتفوق عبر التيار الرئيسي الجارف للإعلام النظري بعيداً عن تلك الآلام.
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي
المصدر:جريدة كفاح العمال الاشتراكي