ما صرّح به نائب الرئيس الأمريكي ترامب مؤخراً بأن حلفاءنا موّلوا وسلّحوا آلاف التكفيريين في سورية، وأن تركيا تهيئ الإرهابيين وتحتضن تنظيماتهم، وعلى الرغم من سحبه لتصريحه ومحاولة إرباك دلالاته عن طريق إلقاء اللوم على وسائل الإعلام لعدم دقتها في نقل التصريح، إلا أن ما قاله نائب الرئيس الأمريكي لم يكن محض صدفة، بل أريد به أن يمرر رسالة تفيد بأن واشنطن ليس لها صديق عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي، إذ ليس من المعقول أن تصرّ أمريكا على بناء التحالف الدولي لخوض الحرب على «داعش»، وفي الوقت نفسه تتجنب وضع النقاط على الحروف وتسمية الحواضن الإقليمية التي لاتزال تقدم كل أنواع الدعم للإرهابيين وتقف تركيا اليوم على رأس هذه الدول والذي لا يحتاج المتابع كل هذا الجهد ليرى بأم عينه مرور العناصر الإرهابية يومياً من مطاراتها والتي تتجمع مثل الجراثيم من مختلف دول العالم لتدفع بها الحكومة التركية إلى سورية والعراق.
الرئيس التركي الذي يحلم بإحياء الإمبراطورية العثمانية كثيراً ما تغنى بالكلمات النابضة بالحقوق والحريات، وأردوغان هذا يشترط على دول التحالف الدولي أن تتعهد له بإسقاط الحكم الوطني المقاوم في سورية لقاء حمايته لما يسمى «المعارضة السورية».
موقف أردوغان المتطابق مع سطوة «داعش» يعيد الذاكرة إلى تاريخ تركيا السياسي وارتكابها المذابح قبل أكثر من مئة عام بحق الأقليات والمكونات الإثنية ومذابح الأرمن شاهد على ذلك، وهي المجازر الكبيرة في التاريخ وبمنهج منظم على غرار ما فعله الدواعش في العراق وسورية.
إن ما يدفع هذا الرجل في تدخله في شؤون الدول العربية ودعمه للإرهاب فيها وما تقوم به هذه الجماعات من تدمير وحشي لكل مظاهر الحياة والحضارة وتكفيرهم لكل من يخالفهم الرأي واستحلال دمائهم، وهذا واضح من خلال ما تقوم به تلك التنظيمات في سورية والعراق وليبيا واليمن، ولمحاولة فهم وتغيير دوافع أردوغان وركوبه هذا المركب، ومحاولته إرجاع عصر سلاطين آل عثمان واستعادة حلم السيطرة على المنطقة من خلال إحياء وعودة الخلافة.
المتابع جيداً لتصرّفات أردوغان يمكنه معرفة الأسباب الحقيقية لكراهيته للنظام الوطني في سورية وجعل الإطاحة به من أولى أولوياته، فأردوغان يريد حكم العالم العربي باسم الإسلام كما فعل أسلافه العثمانيون ولا يرغب في رؤية أي نظام عربي فيه شيء من القومية، وهذا سر خلافه مع نظام الحكم في مصر، كما أن أردوغان يكره أن يرى سورية ذات حكم صديق وشقيق للعراق لأن هذا يهدد مصالح العثمانيين الجدد ويهدد أطماعهم الاستراتيجية في المنطقة، لذلك نراهم يحاولون بكل طاقتهم زرع نظام حكم في سورية معادٍ للعراق والعرب الشرفاء.
باختصار يريد أردوغان دولة إخوانية في سورية تعادي العراق وتنفذ له مخططاته في المنطقة وبالتالي تجهيز المنطقة لحكم العثمانيين في المستقبل، ويدعم مواقف أردوغان بعض الدول العربية مثل السعودية وقطر دون النظر إلى مصالح دولهم وشعوبهم الاستراتيجية في المستقبل القريب والبعيد.
إن إصرار أردوغان على دعم التنظيمات الإرهابية في سورية وخاصة ما تسمى «المعارضة المعتدلة» لا يقل خطرها عن «داعش» وهذه المعارضة هي التي أنجبت لنا «داعش» و«النصرة» ومن لفّ لفّهما والسلاح الذي يرسله العالم لهذه التنظيمات يقتل به الشعب السوري، وأن اعتراف الأمريكان بأن تدريب هذه الجماعات يحتاج إلى سنوات عديدة دليل على رغبتهم بعدم إنهاء هذه اللعبة الخطرة من خلال استخدام هذه الجماعات تخريب المنطقة، ورغبتهم في استمرار الحرب سنين أخرى.
إن الدعم التركي للتنظيمات الإرهابية المتطرفة وبقايا الإخوان المسلمين أصبح أمراً مسلماً به رغم نفي زعماء تركيا بأنهم لا يدعمون الإرهاب، فالكاتب الإسرائيلي (دانيال بايبس) أوضح في مقال نشرته صحيفة (إسرائيل حالوم) أن تركيا تدعم «داعش» وأن هناك أدلة تؤكد ما ذهب إليه، بل إن تركيا قدمت ما هو أكثر من ذلك من تسهيل عبور العناصر الإرهابية، بل تقدم دعماً لوجستياً وتدريباً عسكرياً لعناصر «داعش»، فضلاً عن الدعم المالي الكبير.
وأوضح الكاتب أن تركيا قدمت أكثر من 800 مليون دولار لـ«داعش»، فضلاً عن تدريب ضباط أتراك لتلك العناصر، كما أن قناة (ARD) الألمانية كشفت من خلال أحد مراسليها عن وجود معسكر لمسلحي «داعش» في جنوب تركيا قرب مدينة غازي عنتاب الذي يعد مركز استقبال لهم قبل نقلهم إلى سورية والعراق، وأن تركيا أكبر سوق لـ«داعش» الذي اعتمد على تهريب النفط رغم إنكار الحكومة التركية وحزب العدالة.
كما أن أردوغان يتصف تحت وهم أحلامه الإمبراطورية فهو يعتقد أنه يستخدم هذه الجماعات كأدوات لتحقيق مشروعه عبر زجها في المعركة ضد سورية، وبذلك يفتح الطريق لبقايا الإخوان المسلمين والتي خرجت من عباءتها كل أنواع الفكر المتطرف من خلال متاجرتها بالدين بالوصول إلى السلطة، مما يعني التحكم بالسياسة السورية، فحكام تركيا وعلى رأسهم أردوغان أصبحوا أداة بيد السياسة الأمريكية التي تريد إغراق المنطقة في حالة من الفوضى والتفكك والحرب الطائفية بغية إعادة صياغتها من جديد، ودعم تشكيلات درع الفرات المكونة من ما يسمى «الجيش الحر» في الأراضي السورية.
إن مغامرات حاكم تركيا من خلال سياساته لتحقيق أحلامه الإمبراطورية يدفع المنطقة إلى حروب مركبة ومتواصلة، بل يغامر بمستقبل تركيا نفسها، وخاصة أن تركيا تضم أطيافاً وقوميات عديدة ومذاهب مختلفة، ومهما فعل أردوغان فإنه يغش ويحتال ويضلل الشعب التركي بطرق وأساليب مختلفة تحت ذريعة الوقوف إلى جانب الشعب السوري.
لقد كان دعم تركيا للتنظيمات التكفيرية وإثارتها للفتنة الطائفية والحرب الأهلية بين العرب أنفسهم وإشعال الحرب فيما بينهم وفتح أبواب تركيا لكل المرتزقة من كل أنحاء العالم جعل من تركيا مركز تجمع لهؤلاء المرتزقة ونقطة انطلاق لذبح الشعب السوري ونهب أمواله، ولو دققنا في الأمر لاتضح أن ما يقوم به أردوغان يصب في مصلحة «إسرائيل» ومن أجل تنفيذ مخططاتها ورغبتها التي تعجز «إسرائيل» عن تحقيقها، لهذا نرى «إسرائيل» مسرورة بما يقوم به أردوغان وآل سعود وأعوانهم في المنطقة من عنف وفساد وإرهاب، كما نرى أن الكيان الصهيوني يتظاهر بتجاهل ما يحدث وكأن الامر لا يهمه، فهناك تعاون كبير بين المخابرات التركية والإسرائيلية وبشكل سري لإدارة وقيادة المجموعات الإرهابية الوهابية في العراق وسورية
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي