لعلَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتقد أنه إذا قدّم خدمة لليهود الصهاينة لم يجرؤ عليها الرؤساء الأمريكيون الذين سبقوه ثبّت أقدامه في البيت الأبيض بمواجهة أولئك المطالبين بتنحيته, بل لعله اعتقد أنه سيكون بوسعه أن ينتخب رئيساً للمرة الثانية , طالما أن اليهود الصهاينة هم أصحاب اليد الطولى في الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا ذهب إلى اتخاذ قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة.
ولعلَّ رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو اعتقد أن خطوة ترامب هذه ستمثل قفزة للمشروع الصهيوني باتجاه توطيد أقدام المستوطنين الصهاينة ليس في القدس فقط, وإنما في الضفة الغربية أيضاً. وستكون بمثابة الدعم لموقف نتنياهو نفسه لتثبيت أقدامه في الكيان الصهيوني.
ولكن ما لم يحسب له حساب ترامب ولا نتنياهو، هي ردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية الرافضة بشدة والمنددة بهذا القرار، وجميعها أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الولايات المتحدة تقف على طرف نقيض من العالم أجمع ولا يشاركها في موقفها سوى إسرائيل التي هي ليست في أفضل أحوالها على المستوى الدولي.
الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن أجمعت على رفض القرار لأنه يتناقض مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة ذات الصلة حول وضع القدس. وأكدوا التزامهم بالتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية يقوم أساساً على القرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تؤكد أن القدس مدينة محتلة وتطالب إسرائيل بوقف الاستيطان فيها والانسحاب منها. ونفس الموقف عبرت عنه الدول الحليفة والداعمة تاريخياً لكيان الاحتلال مما شكل صدمة للإدارة الأمريكية ولحكام الكيان الصهيوني.
وهذا أثبت أن الولايات المتحدة وحيدة مع إسرائيل في موقف لا تحسد عليه، وهذا الموقف يظهر إلى أي مدى تؤدي السياسة الرعناء التي تتجاهل المعادلات الدولية والتي بنيت على غطرسة وعدم فهم وإدراك طبيعة الصراع وجذوره وحساسية مركباته وفي مقدمتها مسألة القدس تؤدي بأصحابها إلى نتيجة لم يكونوا يحلمون بها.
فإذا كان ترامب يرغب حقاً في خدمة إسرائيل بهذه الخطوة التي يقدم فيها ما لا يملك، فقد حقق نتيجة عكسية تماماً، فهو أكد بشكل واضح أن الولايات المتحدة حليفة إسرائيل لم يعد بمقدورها خدمة حليفتها لأنها فقدت دورها كوسيط موضوعي أو نزيه ولو بصورة نسبية، وبالتالي لا تصلح لرعاية العملية السياسية، وأضفت شكوكاً عميقة على مشروعها للتسوية إذا كانت هذه بدايته.
والشيء الآخر الذي لا يقل أهمية أن قرار ترامب أعاد قضية الصراع والتسوية إلى مركز الاهتمام الدولي من جديد كأولوية تستحق المعالجة الفورية ولكن ليس على الطريقة الأميركية، وأعاد كذلك مسألة القدس إلى الواجهة كموضوع مركزي يتطلب الحل وهذا يرتبط بالإجراءات والممارسات الإسرائيلية غير القانونية وأحادية الجانب من استيطان وتهويد وضم للأراضي الفلسطينية.
لقد حصلت القضية الفلسطينية على زخم كبير كرد فعل على غباء ترامب وتهوره واستهتاره بمشاعر ومصالح وحقوق الشعب الفلسطيني، والمطلوب هو استثمار هذا الزخم لإعادة صياغة أسس العملية السياسية بالتأكيد على مرجعياتها الدولية التي أكدتها دول العالم قاطبة، وإطار هذه العملية الذي لا يمكن أن يبقى محصوراً في الرعاية والوساطة الأميركيتين.
لقد أكد قرار ترامب للمرة الألف أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست طرفاً محايداً أو نزيهاً أو يتحلى بأي قدر من الموضوعية، ويجب أن يتوقف دورها عند هذا الحد، إلا إذا غيرت سياستها بصورة كاملة وجوهرية وهذا مستبعد إذا لم تتغير الولايات المتحدة نفسها.
من المؤكد أن ترامب ومعه نتنياهو اعتقدا أن دعم أعراب السعودية والخليج للخطوة الأمريكية وولائهم الكامل للولايات المتحدة الأمريكية وتحالفهما مع الكيان الصهيوني, سيخفف من ردود الفعل الدولية والشعبية الفلسطينية, ولم يتصورا أن سلوكاً من هذا النوع يمكن أن يفجّر براكين الغضب على نحو لم يتخيلوه, وأن هذا الغضب سيصب حتماً في قناة المقاومة وستحشر كل المتخاذلين وأنظمة العمالة العربية وفي مقدمتها النظام السعودي في زاوية ضيقة.
لقد أراد ترامب وأنظمة العمالة العربية أن يحققوا لكيان الاحتلال الصهيوني ما لم يكن يحلم به في يوم من الأيام, وأن يقدموا له نهاية للصراع على طبق من فضة, ومعه أيضاً تطبيع عربي علني مع هذا الكيان العدواني المصطنع , هذا بالإضافة إلى إقامة محور أمني اقليمي يشارك فيه الكيان الصهيوني إلى جانب أنظمة العمالة العربية, وهذا المحور كان ليضمن لإسرائيل تهويد فلسطين واغتصابها بالكامل.
إن سعي الولايات المتحدة الأمريكية وأدواتها في المنطقة وفي مقدمتها النظام الوهابي السعودي لإطالة أمد الأزمة في سورية رأس حربة المقاومة في المنطقة, لا ينفصل عن محاولات تصفية حقوق الشعب العربي الفلسطيني, وتسليم القدس المحتلة بمقدساتها الإسلامية والمسيحية للاحتلال الصهيوني, كمقدمة لتصفية الوجود الفلسطيني في عموم فلسطين التاريخية من خلال ما يسمى صفقة القرن الأمريكية.
إن رعاة الإرهاب يعتقدون إن انشغال سورية بمكافحة الإرهاب, يمكن أن يحيّد دورها المقاوم والمدافع عن القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين, ومن هنا محاولاتهم المستميتة لتعطيل الحوار, عبر توجيه وفد الرياض بالإصرار على طرح الشروط المسبقة, ولكن انتصارات الجيش العربي السوري المتلاحقة على أدواتهم الإرهابية تدحض نظرياتهم, وتؤكد ان سورية لن تحيد عن دورها التاريخي المقاوم للمشاريع الصهيو- أمريكية في المنطقة.
وتؤكد الوقائع أن الكلمة الأخيرة تبقى لقوى المقاومة التي تحقق الانتصارات في جميع الميادين, وهي التي يراهن عليها لإفشال جميع المشاريع والمخططات العدوانية الصهيو-أمريكية- الرجعية العربية وتحرير جميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها الجولان السوري المحتل. وأن غد لناظره قريب.
د. محمد قاجو
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي