مما لاشك فيه أن القدس هي ريحانة الضمير العربي وعروس العروبة، مكانتها في الوجدان الديني والإنساني، هي في عيون ووعي ونفس كل عربي شريف، هي في حلمنا وفي يقظتنا وفي إدراكنا.. هي مدينة السلام وزهرة المدائن المقدسة تهفو إليها قلوب المسلمين والمسيحيين من شتى أنحاء المعمورة.. وفلسطين كلها جرح نازف في جسد الأمة العربية وثلم في كبريائها.
القدس تتعرض هذه الأيام لمحنة كبيرة وجريمة نكراء تتجسد بالاعتراف الأمريكي بها كعاصمة لإسرائيل وبوعد بنقل السفارة الامريكية من تل أبيب إليها.
جدير بالذكر أن هذا الاعتراف الذي جاء على لسان الرئيس الأمريكي ترامب لم يكن ابن ساعته كما يقال، بل هو جاء ضمن ما تسمى "صفقة القرن" التي روّج لها البيت الأبيض والتي تهدف إلى تصفية قضية فلسطين وفقاً للمعايير الإسرائيلية، خاصة منها تجاهل حق العودة، وعدم وجود أية سيادة فلسطينية في الدولة المرتقبة حسب ما يسمى "حل الدولتين" والدليل على الإعداد المسبق لهذا الاعتراف هو أن البيت الأبيض الأمريكي أوعز إلى سفاراته في الدول المعنية بـ/جسّ نبض وإجراء استطلاعات/ حول تداعيات هذا الاعتراف وردود الفعل المتوقعة، إلا أن الوقت لم يطل للإعلان عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والعمل على نقل السفارة الأمريكية إليها بمعنى آخر الأمر كان على طاولة ترامب يدرسه مع مستشاريه المقربين والمهم حصل ما حصل.
هذا وللتذكير فإن هذا القرار الأمريكي الجائر بشأن القدس مخالف تماماً لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وخاصة قرار مجلس الأمن رقم /476/ ورقم /478/ اللذان صدرا في أعقاب إقرار "الكنيست الصهيوني" عام 1980 القانون بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، أكد مجلس الامن فيهما أن هذا الضم مخالف للقانون الدولي وليس من شأنه أن يمنع استمرار سريان اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 على الجزء الشرقي من القدس كما ويفترض أن تكون المدينة ضمن محافظة القدس التابعة لدولة فلسطين.
علاوة على ذلك فإن ما تفادته الإدارات الأمريكية المتعاقبة السابقة بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالتالي نقل السفارة الأمريكية إليها رغم كل الضغوط التي مارسها اللوبي الصهيوني المؤثر إلى حد كبير في القرارات الأمريكية قامت إدارة ترامب بالنزق والتهور المعروفين عن رئيسها بالإقدام عليه ضمن سياق سياسة غير مسؤولة في التعاطي مع قضية معقدة كالقضية الفلسطينية بما لها من أبعاد عربية وإسلامية خاصة حين يتعلق الأمر بمدينة القدس ورغم أن تلك الإدارات السابقة كانت تزايد في "ممالأة" إسرائيل والانحياز إلى مواقفها ومدها بكل أنواع الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي ما جعلها تتمادى في التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وحتى احتلال أراضي سورية ولبنانية.
إضافة إلى ذلك حتى ان قرار تقسيم فلسطين الجائر الذي قامت على أساسه إسرائيل تضمن تقسيم القدس إلى شطرين اثنين الأول غربي يكون سيطرة الإسرائيليين والثاني شرقي وهو الاهم لاعتبارات تاريخية وثقافية ودينية يكون تحت إدارة عربية تمثلت في حينه بالأردن لتعذر قيام الدولة الفلسطينية آنذاك.
والسؤال الأكثر أهمية بعد أن حصل ما حصل ما هو الرد العربي على ذلك؟
على الصعيد الفلسطيني استنكرت سلطة رام الله هذا الاعتراف وأكدت أن الولايات المتحدة لم تعد مؤهلة لدورة الوسيط في عملية السلام كما أعلنت رفضها استقبال نائب الرئيس الأمريكي في رام الله ودعت مع الأردن إلى اجتماع لوزراء الخارجية العرب.
وكلها ردود غير فعالة ولا تعني شيئاً إلا أن الرد الشعبي الفلسطيني كان لافتاً ومتميزاً من خلال المسيرات الضخمة التي شهدتها معظم المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة ما أدى إلى صدام مع قوات الاحتلال أسفر عن سقوط عدة شهداء وجرح أكثر من 1200 فلسطيني ومازالت هذه التظاهرات مستمرة بزخم كبير.
أما على الصعيد الرسمي العربي فقد جاء الرد "باهتاً" كالمعتاد تجسد في بعض البيانات والاحتجاجات اللفظية وفي عقد اجتماع لما تسمى الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية ولاشك بأن هذا الموقف الرسمي العربي –ما عدا الموقف السوري- ناتج عن عاملين اثنين –كما أكد العديد من المحللين السياسيين- هما: التواطؤ أو العجز وربما كلاهما معاً ما يدل على أن عدة دول عربية مثل مصر والسعودية والأردن وقطر والبحرين وغيرها ماضية مع الرئيس ترامب في تنفيذ "صفقة القرن" ومنها بالطبع هذا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ماضية أيضاً في تجاوز كل الخطوط الحمر والسير على درب تصفية قضية فلسطين وفقاً لما تريده إسرائيل وأسيادها في البيت الأبيض!!
إلا أن الرد الجماهيري العربي كان لافتاً حيث عمت العواصم والمدن العربية تظاهرات ومسيرات حاشدة كان أكبرها في دمشق تنديداً بالاعتراف الجائر. كذلك فإن الموقف الدولي كان بشكل عام معارضاً لهذا القرار الأمريكي غير المسؤول.
أخيراً لابد من التأكيد على أمر مهم وهو أن ما دفع ترامب إلى هذا الاعتراف المجرم عدة عوامل من بينها الانقسام الفلسطيني ومراهنة السلطة الفلسطينية المستمرة على الوعود الأمريكية الزائفة ثم ما يعانيه الوطن العربي من انقسامات وحروب إرهابية فرضتها أمريكا وعملاؤها على بعض الدول العربية وما تبع ذلك من تصدعات في المجتمعات العربية على اثر هذه الحروب بسبب إحياء النزعات الطائفية والمذهبية في ظل ما يسمى بالربيع العربي.
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي
د.صياح عزام