في ثمانينيات القرن الماضي نشر الفنان الفلسطيني (ناجي العلي) رسماً كاريكاتيرياً يمثل حلبة ملاكمة، يتكئ على أحد جوانبها ملاكم إسرائيلي، بينما ينتشر الملاكمون العرب خارجها وقد اشتبكوا مع بعضهم، الرسم واضح الدلالة، فهو يقول ان إسرائيل اللقيطة لم يعد لها خصم، بعد أن انشغل الحكام العرب بخلافاتهم وصراعاتهم البينية، وحقبة الثمانينيات التي يفصلنا عنها الآن عقود عديدة، كانت حلقة مثيرة في سلسلة الحقب التراجيدية من تاريخ العرب، ففي عام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان وأخرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت وحصلت خلال ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا الشهيرة التي راح ضحيتها المئات من النساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين، على خلفية الاجتياح الإسرائيلي، ومن ثم القتال الفلسطيني الفلسطيني الذي أرهص لظهور الحركات الإسلامية كحماس والجهاد الإسلامي وغيرها في الداخل، كانعكاس لحالة اليأس التي أصابت هذا الشعب المظلوم، وكرست واقع الانقسام وأدخلت القضية الفلسطينية في متاهة التجاذب الدولي والإقليمي، والأخطر من كل هذا أن الخطاب المتطرف لبعضها وضع القضية الفلسطينية برمتها في مهب التشكيك الدولي، الذي استثمرته إسرائيل، لاسيما بعد صمود التنظيمات المتطرفة في العراق وسورية وليبيا واليمن وتدميرها للحضارة العربية في هذه البلدان بمساعدة أمريكا وإسرائيل والسعودية وقطر وتركيا، كالقاعدة وداعش واخواتها، التي شوهت صورة الإسلام وجعلت عملية الفرز الدولي أمراً صعباً بوجود الميديا المعادية وقوة اللوبي الصهيوني في مراكز القرار الدولي المهمة.
القدس كما يعرف الجميع، قسمت إلى شطرين، شرقي للعرب يضم بيت المقدس، وغربي لليهود بموجب قرار تقسيم فلسطين، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947 لكن نكسه حزيران في 1967 مكنت إسرائيل من ضم الجزء الشرقي ومن ثم العمل على جعل القدس بأكملها (الموحدة) عاصمة لإسرائيل، وفقا للرؤية الصهيونية، التي تمثلها أحزاب اليمين وآخرها حزب الليكود الحاكم بزعامة رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو)، وتسعى من أجل كسب الدعم الدولي للاعتراف بها عاصمة لإسرائيل بدلاً من تل ابيب، إذ وفقاً للأساطير الصهيونية يوجد تحت بيت المقدس هيكل سليمان المزعوم، ومنذ احتلالها قبل خمسين عاماً قامت بسلسلة من الحفريات للعثور عليه من دون جدوى، فالمنظمة العالمية للثقافة والعلوم (اليونسكو) التي تتخذ من باريس مقرا لها نفت أي ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحسمت الأمر باجتماعها يوم 8/10/2016 الذي اعتبرت فيه المسجد الأقصى وحائط البراق تراثاً إسلامياً خالصاً، الأمر الذي أغضب المتطرفين اليهود ودعاهم الى التنديد بهذا القرار، وكل قرار لا يأتي وفقاً لرغباتهم او أوهامهم.
وكالعادة الشيء الأكثر أهمية هو أن قرار مجلس الأمن الدولي 242 الذي صدر بعيد حرب حزيران عام 1967 أكد على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، لكن إسرائيل رفضت ذلك، بل رفضت حتى عودة لاجئي حزيران حتى يضافوا إلى لاجئي حرب العام 1948 وراحت تبني مستوطنات في الأراضي المحتلة الجديدة وضمها لإسرائيل خلافاً لقرارات مجلس الأمن، وهكذا وفي ظل العجز العربي والنفاق الدولي، تفاقمت القضية الفلسطينية لتستفرخ مشاكل أخرى بعد أن أصبحت محوراً لشعارات جوفاء رفعها كثيرون، حتى وصلنا إلى التنظيمات الإرهابية التي ما كان أن تظهر بالقوة التي ظهرت عليها لولا الدعم الكبير الذي تتلقاه من جهات دولية لها مصلحة في تقويض الأقطار العربية، كون هذه التنظيمات عاجزة بنيوياً عن قيادة أي دولة، لكنها قادرة بالتأكيد على ارباك الواقع الأمني والسياسي وحتى الاجتماعي لأية دولة تنشط فيها، الأمر الذي يجعلنا نؤمن بأن الأمر ليس بعيداً عن مخطط كبير يأتي في سياق استراتيجية تهدف إلى فرض وضع جديد تكون فيه القضية الفلسطينية شيئاً من الماضي وبعيدة عن تفكير المواطن العربي الذي تم اشغاله بهموم ثقيلة ضيقت عليه حياته وحيدت وجدانه بعد حصره بهمومه الشخصية الملحة.
ما يحصل في القدس اليوم من استهتار إسرائيلي بمشاعر العرب المسلمين وليس الفلسطينيين وحدهم ومن خلال منعها الصلاة لأسباب واهية ناتجة بالضرورة عن السبب الرئيسي المتمثل بالاحتلال وتداعياته الثقيلة، يمثل تحدياً للإرادة الدولية وامتحاناً لمصداقية شعاراتها التي صارت في نظر العرب شبيهة بشعارات الإرهاب، كون تلك الشعارات الدولية تعرضت لأكثر من امتحان وفشلت به.
في عودة للرسم الكاريكاتيري للفنان (ناجي العلي) نقول إن العالم لا يحترم الضعيف، وان لائحة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تطبق في الدول المتقدمة، أو تطبقها في تعاملها مع شعوبها، لكنها لا تحترمها في تعاملها مع الدول الضعيفة، لاسيما حين تكون هذه مستهدفة بخيراتها أو لأسباب سياسية أخرى، وعلينا أن نعرف هذه الحقيقة بعد الدروس التي تلقيناها طيلة العقود الماضية وان استمرار القضية الفلسطينية معلقة وعرضة للمزايدات والمهاترات من قبل الحكام العرب وغيرهم، يعني اننا سنواجه المزيد من الخراب الذي فتحت له قوى الشر ألف باب، وان انشغال العرب اليوم ببعضهم واستفراخ المزيد من الجماعات الإرهابية التي ترفع الإسلام شعاراً أوصلنا إلى هذه الحالة التي تمثل عنوان هزيمتنا الحضارية ونفينا التاريخي الذي يجب أن لا يستمر.
د.رحيم هادي الشمخي
أكاديمي وكاتب عراقي
المصدر: جريدة كفاح العمال الاشتراكي